تمر هذه الأيام الذكري المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا، هذه الثورة في أكتوبر عام 1917 كانت في بدايتها بمثابة تجسيد للحلم بدولة ذات طابع اشتراكي في أضعف حلقات النظام الرأسمالي في ظل النظام القيصري وتدهور أوضاع الفلاحين والبروليتاريا وتورط روسيا في الحرب العالمية الأولي، واحتواء الغضب والسخط في أوساط الفلاحين والعمال والطبقة الوسطي في المدن، من ناحية أخري فإن الثورة أفضت في واقع الأمر إلي تأسيس نظام إيديولوجي صارم يقترب من «القداسة» ويجرم انتقاده، وينسب هذا النظام الإيديولوجي لنفسه صفة، العلمية، تلك الصفة التي تجعل الاقتراب من مرتكزاته جهلاً وتخلفاً ورجعية. ف
ي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956 بزعامة نيكيتا خروتشوف صرح خروتشوف، بأن الرفيق ستالين أمر بقتل العديد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب ونفي واغتال آخرين وعند سماع هذا التصريح، جرؤ أحد أعضاء المؤتمر على سؤال خروتشوف دون أن يكشف عن هويته، حيث أرسل ورقة بسؤاله، وأين كنت أنت، أي خروتشوف فرد عليه خروتشوف ممسكاً بهذه الورقة التي تضمنت السؤال «كنت مثلك يا صاحب السؤال» أي خائف.
ورغم هذا المآل الذي انتهت إليه ثورة أكتوبر عام 1917، أي القتل والتصفية ومعسكرات العمل واختزال الثورة في الحزب، ثم اختزال الحزب في اللجنة المركزية، وبعد ذلك اختزال الثورة والحزب واللجنة المركزية في شخص السكرتير العام، فإن الاكتفاء بالوقوف عند هذه الممارسات ليس منصفاً للثورة.
ذلك أن للثورة وجوهاً مختلفة ومتعددة، وبمقدورنا القول إنه إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن الثورة الفرنسية 1789 بتداعياتها وآثارها وتفاعلاتها ومضاعفاتها في أوروبا، فإن القرن العشرين هو بلا شك قرن الثورة الاشتراكية بمضاعفاتها وتداعياتها وآثارها في روسيا والعالم ككل وبصفة خاصة العالم الثالث وحركات التحرر الوطني من الاستعمار.
شغلت ثورة أكتوبر عام 1917 والثورات والانتفاضات التي مهدت لها منذ عام 1905 في روسيا أغلب سنوات القرن العشرين من 1917 تاريخ قيامها ونشوبها، وحتي إعلان جورباتشوف نهاية الاتحاد السوفييتي عام 1991، ولم تكن هذه السنوات التي تفوق السبعين عاماً مجرد بقاء للاتحاد السوفييتي وهو الدولة التي انبثقت عن الثورة وضمت الشعوب والأقوام التي شكلت روسيا آنذاك، أو كانت خاضعة لحكم الإمبراطورية القيصرية، لم تكن هذه السنوات مجرد بقاء لهذه الدولة علي قيد الحياة، بل انتزعت حق البقاء الفعال ومارست تأثيرها الفعال في توازنات عالم القرن العشرين، حيث كانت القطب الثاني في النظام الدولي إلي ما قبل أزمة الخليج.
وكانت طرفاً في نظام الردع والردع المتبادل والحرب الباردة من خلال التسلح النووي والصواريخ العابرة للقارات، بعد أن توصلت إلى إنتاج السلاح النووي بعد الولايات المتحدة بفترة وجيزة، والأهم من ذلك فإنها كانت نصيراً ومناصراً لحركات التحرر لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية من ربقة الاستعمار، وأمدتها بالدعم المعنوي والمادي وكانت ترى في هذا المعسكر أي معسكر العالم الثالث وعدم الانحياز قوة تحررية ضد السيطرة الغربية.
على صعيد آخر فإن التنافس بين المعسكر الرأسمالي والاشتراكي، في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وسبق المعسكر الاشتراكي في منح أولوية لهذه الحقوق قد سهل للطبقات العاملة في الرأسماليات المتقدمة الحصول على مكاسب الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي وقوانين العمل المتقدمة باختصار ما يسمي بالرفاه الاجتماعية واضطر النظم الرأسمالية الاحتكارية للتساهل وتقديم تلك الحقوق.
ثورة أكتوبر وضعت المساواة بين الأفراد والمواطنين في إطار الواقع الاجتماعي والاقتصادي وليس فحسب في الواقع القانوني كما فعلت الثورة الفرنسية، وفي إطار هذه المساواة الفعلية كان من السهل أن تجد عاملاً مديراً لمصنع أو ممرضة مديرة لمستشفي أو عامل منجم رئيساً للحزب.
وهو ما يعتبر في منظور هذه الأيام أحد أسباب انتكاسة الثورة نظراً لظهور وتكاثر فئات المهنيين والمتخصصين والتكنوقراط وغيرهم، بينما في فرنسا توارث الثروة العائلات الكبيرة لمدة عدة أجيال كما توارث الآخرون ميراث الفقر.
يبقي من ثورة أكتوبر أنها مغامرة كبرى في التاريخ الإنساني وحملت من القيم الكبرى والكونية في المساواة والتحرر من الاستغلال ما يفوق أية مغامرة أخري في التاريخ؛ كذلك فإن المجتمعات الإنسانية تزخر بالغني والتنوع والتعقيد بالقدر الذي يفوق الهندسة البشرية والقوالب الإيديولوجية سابقة التجهيز.