تعود هزيمة يونيو 1967 إلى النقاش مجدداً مع سلسلة مقالات كتبها الصحافي المصري خالد منصور حول كتابه «في تشريح الهزيمة» نشرتها مواقع عدة على شبكة الإنترنت.

الكتاب هو نتاج بحث قام به المؤلف استغرق عدة سنوات وفي المحصلة النهائية هو جهد بحثي مميز يستحق القراءة والمناقشة. يتميز الكتاب بغزارة المعلومات التي يعرضها المؤلف واعتماده في بناء الخلاصات على استعراض كل المصادر المتاحة وخصوصاً الأجنبية والإسرائيلية والقليل من المصادر العربية، ومن ثم الخروج بالاستنتاجات التي اطمأن لها «المؤلف/ الباحث». الكتاب من وجهة نظري يوفر مادة خصبة وأرضية جيدة لمزيد من النقاش حول هذا الحدث المفصلي في تاريخ مصر والمنطقة.

في السياق الأعم، يمثل الكتاب مساءلة لما يعتبره المؤلف وآخرون كثر، نظرية سعت إلى تهوين مسؤولية القيادة المصرية وأفرادها ومؤسساتها عن الهزيمة، وهي النظرية التي روج لها - حسب المؤلف - الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار»، والتي يصور الهزيمة باعتبارها مؤامرة أميركية إسرائيلية.

لقد استدعت هذه الملاحظة إلى ذهني صيغة مشابهة هي ما قيل تبريراً لقرار الرئيس العراقي الراحل صدام حسين غزو الكويت (أغسطس 1990) والقائمة أيضاً على إعفائه من المسؤولية وإلقائها على «خدعة وفخ أميركي وقع ضحيته» في حديثه الشهير مع السفيرة الأميركية في بغداد أفريل غلاسبي.

إن هذه الذهنية الميالة لتحميل الخارج والآخرين المسؤولية دوماً مسؤولة بلا شك عن حدث مثل يونيو 1967، لكن الإقرار بمسؤولية القيادة المصرية عن (يونيو 1967) والعراقية عن (أغسطس 1990)، لا تعني تسليماً تلقائياً بعدم وجود أي نية مبيتة أو خطط مسبقة لدى الإسرائيليين أو الأميركيين في كلا الحدثين. وحسب منصور فإن إسرائيل حتى حرب يونيو 1967، كان لديها خطط للطوارئ، أي خطط دفاعية ترد بها على أي هجوم عسكري عربي سواء من مصر أو سورية أو أي بلد آخر.

لكن الاستنتاج أن إسرائيل لم تكن تنوي شن الحرب لولا التصعيد المصري، قد يقود إلى تساؤلات أخرى أو بحث آخر حول حقيقة النوايا الإسرائيلبة. فإذا سلمنا جدلاً أن إسرائيل لم تكن تعتزم شن الحرب على مصر وأنها شنتها بفعل التصعيد المصري، فهل يقترح هذا أن الهدف النهائي لاحتلال سيناء كان احتلال أرض للعدو بغرض المساومة لاحقاً أم للاحتفاظ بها فعلياً والتصدي لأي محاولات مصرية لاستعادتها؟ وهل ينطبق هذا على الجولان أيضاً؟

لا أناقش الأمر هنا من مقتضيات الحق والعدالة، لكنني أحاول تقليب الموضوع على أكثر من وجه في محاولة للفهم، ويبدو لي أن الحكم النهائي على النوايا الإسرائيلية في مفصل حرب يونيو 1967 ما يزال بحاجة إلى المزيد من البحث في أحسن الأحوال. وفي نقطة تفصيلية حول قرار الحرب بالنسبة لإسرائيل، فإنه من المستحيل من وجهة نظري اتخاذ قرار الحرب قبل يوم واحد فقط من اندلاعها وخوضها بنجاح وبتفوق استخباراتي وتكتيكي على ثلاث جبهات، فالأمر هنا لا يتعلق بخطط طوارئ [دفاعية] تم اتخاذها مسبقاً، بل بجهد عسكري واستخباري وسياسي ودبلوماسي لا يمكن أن يبنى إلا في مدى زمني طويل.

حول هذه النقطة تحديداً، سأعود هنا إلى الراحل الفريق سعد الشاذلي وحديثه عن الاستعدادات لحرب أكتوبر في كتابه حول هذه الحرب وفي بعض المقابلات التلفزيونية. فلقد ذكر الشاذلي أنه زار الجبهة قبل يوم واحد من الحرب أي في يوم الجمعة 5 أكتوبر، ليتأكد بنفسه ما إذا كان الإسرائيليون قد علموا بالنوايا المصرية وقاموا بتغيير استعداداتهم في الضفة الشرقية للقناة. وأشار إلى أن الإسرائيليين حتى تلك اللحظة لم يعرفوا شيئاً عن استعدادات المصريين لشن الحرب ولم يتخذوا أية إجراءات لحشد القوات أو لرفع درجة الاستعداد تحسباً لهجوم مصري متوقع. وزاد بالقول إنه حتى لو علموا حتى ذلك اليوم (أي 5 أكتوبر) فإن ذلك لن يغير في الأمر شيئاً.

وشرح الشاذلي هذا بقوله: «إن إسرائيل تحتاج إلى 72 ساعة لإتمام المرحلة الأولى من تعبئتها [تعبئة القوات المسلحة] وتحتاج 96 ساعة أخرى لإتمام المرحلة الثانية من التعبئة والتي تشمل تعبئة موارد الدولة بأكملها للحرب. فلو فرضنا وعرفت إسرائيل الآن بنوايانا فلن يسعفها الوقت لتعبئة قواتها بشكل مؤثر». (حرب أكتوبر - مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، ص 368، دار رؤية للنشر والتوزيع).

ما ذكره الشاذلي يعني في الحساب النهائي 7 أيام ومسايرة الاستنتاج أن إسرائيل قررت شن الحرب يوم 4 يونيو تعني انتفاء وجود خطط إسرائيلية لشن الحرب على مصر بالسيناريو الذي تمت به.

وإذا ما أضيف إلى ذلك معلومة أخرى من مصدر غير إسرائيلي هو كتاب «جواسيس جدعون» للبريطاني جوردن توماس حول اقتراح رئيس الموساد وقتذاك مير عميت للتوقيت المناسب لضرب الطيران المصري بناء على معلومات عن روتين العمل بالقواعد الجوية المصرية، فإن هذا معناه جهد استخباراتي استغرق وقتاً ليس قصيراً وليس استنتاجاً وليد اللحظة. يدفعني هذا للقول إن إعادة النظر في الاستنتاج سالف الذكر ستصبح أمراً ضرورياً من وجهة نظر البحث.