لطالما قلنا: إن ثقافة الاعتذار من الثقافات التي تنقصنا في العالم الثالث بشكل عام، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، لأن الاعتذار أول خطوة في طريق الاعتراف بالخطأ والعودة إلى الحق، وهو أمر ثقيل على النفوس التي لم تعتده، ولكن يبدو أن البعض فهم هذه الثقافة بطريقة خطأ، وعِوَضَ أن يستخدمها الاستخدام الصحيح، قام باستخدامها استخداماً خطأ، أساء إلى هذه الثقافة، فأهان نفسه وأذلها.
وهذا أمر يسيء إلى هذه الثقافة، حتى لو حدث ذلك تحت التهديد واستخدام وسائل ليس من بينها الإقناع الذي يجب أن يكون هو الوسيلة إلى الاعتراف بالخطأ، والمبادرة إلى تقديم الاعتذار، الذي له قواعده وشروطه وأصوله.
ربما يكون ما حدث في حي السلم بالضاحية الجنوبية من بيروت أواخر شهر أكتوبر الماضي شأناً داخلياً، يخص «حزب الله» وحده، ويأتي في إطار أسلوب تعامل الحزب مع أتباعه، والطريقة التي يربيهم أو يؤدبهم بها، لكنه يعطينا مثالاً لطريقة الفهم الخطأ لثقافة الاعتذار التي نتحدث عنها، وكيف يمكن أن يكون الاعتذار وسيلة لإذلال البشر وتربيتهم وتأديبهم حتى لا يحيدوا عن الطريق المرسوم لهم، ويعرفوا حدودهم، ويتعلموا كيف يحترمون أسيادهم، على اعتبار أننا ما زلنا نعيش في عصر الأسياد والعبيد، الذي يزعم البعض أنه قد ذهب إلى غير رجعة، وأن آخر رموزه قد تم القضاء عليها قبل أكثر من 150 عاماً، على يد الرئيس الأميركي السادس عشر أبراهام لنكولن، الذي أصدر إعلان «تحرير العبيد» أثناء الحرب الأهلية الأميركية، قبل أن يتم اغتياله على يد أحد مناهضي سياسته، فما الذي حدث في حي السلم الضاحية الجنوبية من بيروت، وما هي علاقته بثقافة الاعتذار التي نتحدث عنها؟
ما حدث في حي السلم، الذين يدين سكانه بالولاء لحزب الله، هو أن بعض سكان الحي قد تجرأوا على شتم زعيم الحزب أمام عدسات الكاميرا على الهواء مباشرة، وانتقدوا مشاركته في الحرب القائمة في سوريا، في رد فعل غاضب منهم على إزالة مخالفات في مسعى لتجميل الضاحية، في إطار حملة قامت بها قوة أمنية بلدية، في ساعات الفجر الأولى، هدمت خلالها عدداً من المحال المخالفة في الحي.
وعندما وصل الخبر إلى أصحاب المحال من الأهالي، نزلوا إلى الشارع وقطعوا الطريق وأحرقوا الدواليب، ولم يجدوا أمامهم، وهم في حالة غضبهم هذه، إلا تحميل «حزب الله» المسؤولية، باعتبار أنه المسؤول عن الضاحية من حيث الأمن والبلديات والبيئة والتعبئة والحشد.
وبقي كل هذا مقبولاً لولا أنه عندما حضرت كاميرات التلفزيون بدأ الكلام الكبير يظهر على الهواء مباشرة، فقام أكثر من شخص بانتقاد زعيم الحزب، الذي يرى أتباعه أنه معصوم، وحمّلوه مسؤولية إرسال شباب الحزب إلى سوريا لقتلهم، وأتبعوا هذا الاتهام بشتيمة من النوع الثقيل.
ربما يبدو هذا غير مألوف داخل الضاحية، التي يحكمها الحزب بقبضة حديدية، في ظل القداسة التي يضفيها أتباع الحزب على زعيمهم، والتي لا تسمح بتوجيه انتقاد من أي نوع له، فما بالكم بشتيمة من النوع الذي ظهر على شاشة القناة، التي هي بالمناسبة ليست قناة الحزب الرسمية؟! لذلك كان المشهد في اليوم التالي مناقضاً تماماً لما رآه المشاهدون في اليوم السابق، حيث ظهر المنتفضون على الشاشة نفسها، وهم يحملون صور السيد، ويقولون كلاماً رقيقاً ومناقضاً تماماً لما قالوه قبلها بيوم واحد فقط.
كل هذا كان متوقعاً وطبيعياً ومقبولاً في ظل السيطرة التي يفرضها الحزب على ضاحيته، بل على لبنان كله.
وكان متوقعاً أن يقدم المنتفضون اعتذارهم للزعيم بعد كل الإهانات التي وجهوها له، لكن الذي لم يكن متوقعاً هو أن يعتذروا إلى «سباط» الزعيم، كما ظهر في التسجيلات التي عرضت على القناة، التي نقلت انتقاداتهم قبل يوم واحد من الاعتذار، وقد شمل الاعتذار القناة التي تجرأت وعرضت الانتقادات، فخرجت مذيعتها على المشاهدين قائلة: «عاد الحي إلى سلمه، وما كان غضباً بالأمس هدّأ من روعه، وقدم الاعتذار إلى غبرة سباط السيد».
وهكذا لم يكتف المذنبون بالاعتذار إلى السباط وحده، بل اعتذروا إلى «غبرته»، وفق تعبير المذيعة التي تحمست للاعتذار أكثر من المعتذرين أنفسهم، في سباق محموم إلى كسب رضا سباط الزعيم وغبرته.
لا أحد يعرف ما حدث خلال الفترة الفاصلة بين ثورة المنتفضين الغاضبين واعتذارهم، وإن كان كل واحد منا يستطيع أن يتوقعه، فقد بدت آثاره واضحة في عيونهم الذابلة، وأصواتهم المبحوحة، وعلى وجوههم الشاحبة، بعد أن كانت تفيض حيوية قبل ليلة واحدة فقط.
وهذا مفهوم، لكن غير المفهوم هو أن يقوم نائب في البرلمان اللبناني، في معرض رده على المنتفضين، إلى استذكار لحظة، وصفها بأنها من أسعد لحظات حياته، هي لحظة دنوه لتقبيل حذاء السيد، والقول إنه حينما هبط لتقبيل الحذاء كان يستشعر أنه خارج الناسوت، وأنه دخل عالم الملكوت! فهل هذه هي الثقافة التي نريد أن ننشرها بين أفراد مجتمعاتنا، وهل يمكن أن تنتج ثقافة تقبيل الأحذية مواطنين قادرين على بناء أوطان قوية ومتماسكة، وحماية هذه الأوطان؟
الجواب بالتأكيد لا، لأن من يستطيب تقبيل الأحذية وكعوبها وغبرتها لا يستطيع أن يعرف طعم الحرية، ومن يقبّل الأحذية خوفاً من بطش أصحابها لا يستطيع أن يرفع رأسه، ومن لا يستطيع أن يرفع رأسه يعيش ذليلاً أبد الدهر.