في معرض رفضها الاعتذار للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور، قالت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي: إن بريطانيا «فخورة بدورها في إنشاء دولة إسرائيل» و«إنها لن تعتذر للفلسطينيين عن الوعد الذي أصدره وزير خارجيتها عام 1917 جيمس آرثر بلفور».

في الحقيقة لم تتم قراءة هذا التصريح بشكل دقيق وعلى كافة الأوجه وفي معناه الحقيقي. لقد مرت 100 عام على وعد بلفور الآن وخلال هذا السنوات، أي خلال قرن كامل جرى التالي منذ أن أطلق السيد بلفور تصريحه الشهير الذي ترفض السيدة تيريزا ماي وحكومتها الاعتذار عنه:

أولاً: منذ إطلاق الوعد وارتفاع معدل الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي كانت تتم تحت أنظار ومعرفة سلطات الاحتلال البريطاني في فلسطين، بدأت سلسلة المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أبناء الشعب الفلسطيني.

إن قراءة متأنية لتلك الحقبة، تكشف أن السلطات البريطانية لم تقم بأي عمل جدي لوقف هذه المذابح بحق الشعب الفلسطيني ولم تقم بأي إجراء حاسم لمنعها مثل اعتقال زعماء منظمات شتيرن وأراغون.

أقصى ما فعلته هو إصدار مذكرة اعتقال بحق إسحق شامير بعد عملية تفجير فندق الملك داود في القدس. الغريب أن السجل الاستعماري البريطاني يوضح بجلاء أن السلطات البريطانية كانت قادرة على اعتقال أي زعيم معارض في أي بلد أو أي إرهابي أو أي شخص يقوم بأعمال عنف أو تفكيك شبكات ومنظمات إرهابية في كل البلدان التي حكمتها إلا في فلسطين المحتلة، فالتاريخ لم يسجل أنها اعتقلت أياً من الإرهابيين الصهاينة، الذين بدأوا حملة أعمال عنف وإرهاب ومذابح لدفع الفلسطينيين سكان البلد الأصليين إلى الهجرة وترك ديارهم.

ثانياً: لم تغادر بريطانيا فلسطين المحتلة إلا بعد31 عاماً منذ وعد بلفور في 2017 بعد أن اشتد عود المنظمات الصهيونية وتسلحت بشكل جيد.

ولقد تركت البلد دون نقل السلطة إلى حكومة تمثل السكان من أهل البلد الذي احتلته سواء منتخبة أو معينة، تركت البلد دون أي إجراء لنقل السلطات أو السيادة بل تركته دون أي مسؤولية وهو وضع كان من الطبيعي أن يتسبب باندلاع الحرب بين المستوطنين الصهاينة، الذين بدأوا يتدفقون على فلسطين تباعاً منذ 1917 خلال 30 عاماً أي حتى اندلاع الحرب وقيام دولة إسرائيل.

ثالثاً: اندلعت أربعة حروب كبرى في أعوام 1948، 1956،1967 وأخيراً 1973 بين إسرائيل وجيوش نظامية عربية، وسقط خلالها آلاف الضحايا من المدنيين وتم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من منازلهم وتحولوا إلى لاجئين. وقامت إسرائيل من جهتها بشن الحرب على كل من الأردن عام 1968 (معركة الكرامة) كما شنت الحرب على لبنان عام 1978 وعام 1982 ومجدداً عام 1996 وعام 2000 وعام 2006.

في كل هذه الحروب سقط ضحايا مدنيون وفي اجتياح 1982، ضرب الجيش الإسرائيلي طيلة شهرين بيروت الغربية التي لا تزيد مساحتها عن 25 كلم مربع والمكتظة بالسكان وأوقع عشرات آلاف من القتلى والجرحى المدنيين، وسهل ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا. وارتكب الجيش الإسرائيلي مجدداً مذبحة مروعة في بلدة «قانا» في جنوب لبنان (1996) راح ضحيتها نسوة وأطفال كانوا يحتمون في مركز تابع لقوات الأمم المتحدة.

ثالثاً: قتلت القوات الإسرائيلية مئات الآلاف من الفلسطينيين طيلة عقود احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة وسجنت الآلاف حتى اليوم.

رابعاً: في مارس من هذا العام، اعتبرت لجنة أممية تابعة للأمم المتحدة (تابعة لمنظمة الاسكوا) وبعد استقصاء علمي دقيق ودراسة شاملة أن إسرائيل«أسست نظام آبارتهايد ضد الفلسطينيين». هذا التصنيف الأممي يذكرنا بنظام آبارتهايد آخر تمت إزالته مطلع التسعينات في جنوب أفريقيا.

هذه الدولة التي تفخر تيريزا ماي بالمساهمة في إنشائها (وهي مساهمة جوهرية وأساسية). دولة وصفتها الأمم المتحدة بأنها نظام آبارتهايد، لكن السيدة ماي الفخورة بدور بلادها في إنشاء هذه الدولة، دعت بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل (سايكوباثي آخر على غرار ارييل شارون) للاحتفال بمئوية وعد بلفور.

في النهاية يتعين فهم شعور الفخر بالمساهمة في إنشاء إسرائيل الذي تغنت به السيدة ماي في وجهه الصحيح: إنها فخورة بإنشاء دولة نظام عنصري مسؤولة عن 100 عام من عدم الاستقرار والمذابح والمعاناة لشعوب هذه المنطقة. أما رفضها للاعتذار للشعب الفلسطيني فهو لا يحتاج ترجمة إضافية لأن معناه واضح: إلى الجحيم بالشعب الفلسطيني.

ومثلما صاغ بلفور رسالته بخبث استعماري إنجليزي نموذجي متجاهلاً أي إشارة للشعب الفلسطيني صاحب الأرض إلا باعتبارهم «الجماعات الأخرى»، فإن السيدة ماي لم تفعل سوى أن تواصل ما درج عليه أسلافها من تجاهل ولكأن رسالة بلفور تلك سطور من الكتاب المقدس.

لكن لم لا يبدو موقف رئيسة وزراء بريطانيا غريباً؟ ما دمنا قد وصلنا إلى «الآبارتهايد»، علينا أن نتذكر أن بريطانيا والولايات المتحدة كانتا البلدين الداعمين الأساسيين لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حتى لحظة انهياره عام 1990. ما لا ينتبه له كثيرون هو أن إسرائيل باتت منذ فترة أسيرة الهواجس الوجودية لأن سلاحاً جديداً تعجز عن صده بات يوجعها في الصميم هو سلاح«المقاطعة». ويبدو أن المصير الذي واجه نظام الآبارتهايد في جنوب أفريقيا يرتسم بقوة أمام إسرائيل.