في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، تصادقت مع صحافي إنجليزي شاب كان قد جاء إلى البحرين ضمن فريق من الصحافيين لإطلاق صحيفة محلية إنجليزية في نفس المؤسسة الصحافية التي كنت أعمل في صحيفتها العربية. لقد كان صحافياً ذكياً ولماحاً وساعياً للمعرفة، سرعان ما جمعتنا نقاشات وحوارات ممتدة بدأت من استراحة المدخنين وتطورت إلى تبادل كتب وجلسات طويلة في المقاهي.
كنا نختلف في أشياء كثيرة، فهو مثل باقي المثقفين الأوروبيين التقليديين، ينظرون إلى الصراع العربي الصهيوني نظرة مبنية على التعاطف مع اليهود باعتبارهم ضحايا المحرقة النازية دون التفات إلى المأساة الفلسطينية إلا في الحدود الدنيا والأهم بإلقاء اللائمة على العرب أكثر مما هي على الصهاينة وعلى أوروبا والولايات المتحدة. كنا نختلف على كل القضايا المتعلقة بدول الخليج؛ فالخليجيون بالنسبة له ليسوا أكثر من شعوب مرفهة وكسولة.
مكث نحو ثلاث سنوات ثم انتقل للعمل مع وكالة أنباء أجنبية في دبي، ومن هناك أتيحت له الفرصة أن يسافر إلى كل دول الخليج تقريباً إضافة إلى العراق واليمن. التقينا في العام 1999 في اليمن أثناء الانتخابات الرئاسية التي نظمها علي عبدالله صالح في ذلك العام لكي يوهم العالم أنه رئيس ديمقراطي يخوض الانتخابات أمام منافسين. كانت تلك قصة مسلية فعلاً، فللمرة الأولى في التاريخ، يشاهد العالم مرشحاً منافساً للرئيس لا هم له سوى مهاجمة المعارضة في كل مؤتمر صحافي يعقده ولا يتعرض لمنافسه «السيد الرئيس» أبداً.
التقيت بصديقي الإنجليزي على أية حال، وفي وسط أحاديث عادية جداً قال لي: «لقد كنت على حق في كل نقاشاتنا التي جمعتنا في البحرين». ومضى يشرح لي كيف أن وجوده في المنطقة أتاح له أن يرى الصورة من جانب آخر؛ لقد تغير موقفه من النزاع العربي الصهيوني فأصبح مقتنعاً بضرورة العدالة للشعب الفلسطيني وحقه في دولة مستقلة. تغيرت نظرته أيضاً تجاه قضايا أخرى. من بين جملة من الأسباب التي شرحها لي في معرض حديثه أن جزءاً كبيراً مما يجري هنا لا تنقله وسائل الإعلام في أوروبا على نحو دقيق، لا لنقص المهنية بل لأن الصورة لا تصل بشكل كامل ودقيق (الصيغة الملطفة جداً والدبلوماسية لمفردة: الانحياز).
قبل صديقي هذا، جمعني في العام 1996 حديث مع الصحافي والكاتب الأميركي تشارلي ريس وكان وقتها لايزال يكتب للعديد من الصحف داخل الولايات المتحدة وخارجها (لقد تقاعد ريس عن الكتابة منذ سنوات). وعُرف ريس بمواقفه المؤيدة للحق الفلسطيني، وكان واحداً من قلة قليلة من كتاب الصحف الأميركيين ممن يدعون إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967. لقد كنا مجموعة من الصحافيين العرب نشارك في تغطية الانتخابات الرئاسية الأميركية في ذلك العام والتقينا ريس في اورلاندو بولاية فلوريدا حيث كان يقيم ويعمل في صحيفة «اورلاندو سنتينل» المعروفة أيضاً بموقفها الداعم للحقوق الوطنية الفلسطينية.
في معرض حديثه، أشار ريس إلى أنه لم يكن مناصراً للموقف الفلسطيني والعربي من الصراع مع إسرائيل عندما كان في الولايات المتحدة لأنه لم يكن يحصل على معلومات أو تصريحات إلا من الإسرائيليين وأنصارهم الكثر. لكن عندما زار المنطقة في جولة أخذته إلى عدد من الدول العربية، أخذ يغير مواقفه لأنه فهم الجانب الآخر للصورة وعرف حقائق كانت غائبة عنه.
تداعت تلك الذكريات إلى ذهني وأنا جالس أتابع وقائع الجلسة الثانية من أعمال «ملتقى أبوظبي الاستراتيجي» الرابع الذي ينظمه مركز الإمارات للسياسات، وتحديداً عند الاستماع إلى أحد ضيوف الملتقى الذي يرأس مركزاً بحثياً في ولاية فلوريدا. فلقد جعلتني مداخلاته أتساءل: هل نتلقى نحن وهو المعلومات نفسها والحقائق نفسها التي نبني عليها وجهات نظرنا؟
ما نوع المعلومات التي تصله هناك في الولايات المتحدة؟ هل هي بالفعل مختلفة عما يصلنا هنا ونعيشه؟ إن أخذنا الأمر بحسن نية، أعتقد أن الجواب هو «لا»، لا تصله نفس الحقائق. فالمتحدث الضيف قد لا تصله نفس المعلومات التي تصلنا، وقد لا يكون محيطاً بنفس الحقائق التي نعرفها جيداً هنا. لكن ضياع الحقائق المشتركة جعل النقاش يقوم على ذلك النوع من الجدل الذي يحكمه مبدأ: «ما لا أعرفه ليس موجوداً».
لن نستبدل حسن النية بسوء النية للتفسير مثلاً؛ ففي النقاشات السياسية لا يصلح النقاش إلا بالحقائق، فأي الحقائق التي يمكن أن نحتكم إليها عند الحديث عن إيران؟ كان الضيف يتحدث عن إيران أخرى بدت للكثيرين أقرب لأن تكون جمعية هلال أحمر وليست دولة تفاخر كبار مسؤوليها بأنها باتت تهيمن على أربع عواصم عربية مثلما بشرنا علي أكبر ولايتي غداة سقوط صنعاء بيد الحوثيين.
فالقفز على حقائق التدخلات الإيرانية، أمر يبدو منافياً لحقائق يفترض أنها واضحة ومعلنة. لا ينفع القول ان إيران تستغل اخطاء دول الخليج، لأن هذا لا ينفي نواياها ولا ينفي خططها، فلماذا تستغل اخطاء دول الخليج وما الهدف؟
وطالما ان الضيف قد دعا لمفاوضات مع إيران باعتبارها السبيل الافضل، فلقد كنت اعتزم سؤاله لكن ضيق الوقت حال دون ذلك، وهانذا اشارككم السؤال: على ماذا يمكن ان تتفاوض دول الخليج مع إيران؟