على امتداد سنوات طويلة، ظل خلالها يوم الثاني من نوفمبر من كل عام، إحدى المناسبات الدورية التي تحرص خلالها القوى الوطنية - في معظم العواصم والمدن العربية - على أن تخرج في مظاهرات عارمة، تندد خلالها بالحركة الصهيونية.

لأن هذا اليوم من عام 1917، هو الذي اعتمد فيه مجلس الوزراء البريطاني النص الرسمي للوعد الذي كتبه اللورد آرثر جيمس بلفور - وزير الخارجية، ليكون هذا الوعد المشؤوم، الذي تمر هذه الأيام ذكرى مرور قرن كامل على صدوره، هو الورقة الأولى والأساسية في ملف المأساة الفلسطينية.

وعلى العكس من المناسبات الوطنية السعيدة، التي كانت القوى الثورية تحرص على أن تحتفل بها، بترديد الأغاني والأناشيد وتنظيم العروض العسكرية، كما كان - ولا يزال - يحدث في الاحتفالات بأعياد الجهاد والجلاء والدستور والنصر وأمثالها، فإن الاحتفالات بالمناسبات الوطنية التعيسة ومنها «ذكرى وعد بلفور» و«نكبة 1948» و«نكسة 1967».

لم يكن يتطلب ترديد الأغاني أو إنشاد الأناشيد أو تنظيم الاستعراضات، بقدر ما كان يفرض على الأجهزة الأمنية في كل البلاد العربية أن ترفع درجة استعدادها إلى الذروة حتى تستطيع أن تواجه موجات الغضب العارم، التي قد تقود الجماهير لممارسة أقصى درجات العنف، انتقاما مما جرى، أو استردادا لما ضاع أو أسفا على ما فُقد ولن يعود.

وهو ما يحيط الاحتفالات بهذه المناسبات التعيسة عادت بمناخ من التوتر والاضطراب، كان من بين مظاهره، أن هيئة المواصلات البريطانية، قررت أن تمنع تعليق الملصقات التي تدعو للاحتجاج بمناسبة مرور قرن كامل على صدور وعد بلفور في محطاتها.

وتذرعت بأن هذا الوعد من الموضوعات المثيرة للجدل بين البريطانيين، إذ يعتبره بعضهم من الأخطاء التي وقعت فيها السياسة البريطانية، بينما يعتبره آخرون من الإنجازات الكبرى التي قامت بها حكومة حزب المحافظين التي كانت قائمة آنذاك.

ويخشى فريق ثالث أن يجدد الاحتفال بالمناسبة الجدل بين الطرفين، على نحو قد يؤدي إلى احتكاك بينهما يكدر الصفو العام، خاصة أن هناك طرفا ثالثا في المشكلة، هم الفلسطينيون، الذين منح هذا الوعد لليهود الصهاينة الحق في إقامة وطن قومي لهم على الأرض التي كانت وطنا لهؤلاء الفلسطينيين، فتحولوا منذ ذلك الحين إلى لاجئين يعيشون في الشتات.

ووعد بلفور هو الفصل الثاني من أكبر عملية احتيال سياسي حدثت في التاريخ المعاصر، وهى التي عرف فصلها الأول باتفاقية سايكس/‏ بيكو، إذ ما كادت الحرب العالمية الأولى تنشب حتى أقلق الجميع المعسكر الذي سوف تنضم إليه تركيا، خشية أن تعدل عن الموقف المحايد الذي اتخذته في بداية الحرب.

، وتنتقل إلى الانحياز إلى المعسكر الذي تتزعمه ألمانيا، مما يمكنها من استخدام نفوذها على الدول العربية التي تخضع اسميا لسيادتها، ويتيح لها الفرصة لاستغلال هيمنتها الروحية، على هذه الدول باعتبارها مقر الخلافة الإسلامية، لكى تدفع شعوبها للانحياز إلى الأعداء، خاصة أنها كانت تخضع عمليا لهيمنة دول الحلفاء، على الرغم من احتفاظ تركيا بسيادتها الاسمية عليها.

وكان الحل الموفق السعيد الذي انتهى إليه الحلفاء، هو توقيع اتفاقية سرية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في ربيع عام 1916، تقضى بأن تقتسم الأطراف الثلاثة، باعتبارها الأطراف الرئيسية للحلفاء ممتلكات تركيا، بعد أن قادتها الحماقة السياسية إلى العدول عن موقفها المحايد والانحياز إلى المعسكر الآخر، مما يرشحها للهزيمة.

ويرشح هذه الممتلكات لكى تتحول إلى غنائم بين المنتصرين، بحيث تكون سوريا ولبنان من نصيب فرنسا، وتكون مصر والعراق من نصيب بريطانيا، أما فلسطين التي كانت جزءا من سوريا، فقد اختلفت الأطراف الثلاثة، حول النصيب الذي يأخذه كل طرف منها، ثم انتهى بها الأمر إلى الاتفاق على إخضاعها لإشراف دولي.

ولم يفتضح أمر اتفاقية سايكس/‏ بيكو إلا بعد انفجار الثورة الروسية في أكتوبر من عام 1917، إذ أعقبه انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى.

وعثر الثوار على نص الاتفاقية في وزارة الخارجية الروسية، وكشفوا نصوصها للأطراف العربية التي كانت ضحية لهذا الاحتيال، ليكتشف العرب أن البريطانيين، كانوا يعدون الشريف حسين، أمير مكة، بأن يستقل بدولة عربية تضم الجزيرة العربية والشام والعراق، مقابل أن يساعدهم في الحرب.

في الوقت الذي كان مندوب آخر لهم، هو السير مارك سايكس يتفاوض مع مندوب فرنسي هو المسيو بيكو لتنتهى المفاوضات بينهما على أن تكون الشام من نصيب فرنسا. وما كاد سايكس ينتهى من إتمام هذه الصفقة، حتى شارك في المفاوضات التي انتهت بصدور «وعد بلفور»، الذي يقر بحق اليهود في أن يأخذوا فلسطين، وبهذا كانت بريطانيا تعطي ثلاثة وعود متناقضة في ثلاثة أعوام متتالية، من دون أن تشعر بأية درجة من تأنيب الضمير.