عدا التفاهة المستشرية فيها، باتت وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً رئيسياً للأخبار المزورة والمختلقة التي تزدهر في سياق صراعات سياسية كبرى على المستوى الإقليمي والدولي. فلقد غدت وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت عموماً الوسيلة المثلى للحرب الدعائية في الألفية الثالثة للميلاد.
تتخذ غالب الأخبار والتقارير المزورة أشكالاً عدة باتت متكررة أبرزها:
(أولا): أن ينسب كلام دعائي ضد بلد ما أو زعيم سياسي لشخصية إما باسم مختلق أو ينسب لشخص متوفٍ أو لاسم اجنبي يتردد في الأخبار لكن في ميادين بعيدة عن السياسة. يظهر البحث السريع على الإنترنت أن كل ما يرد في أخبار كهذه لا وجود له.
(ثانيا): تقرير غير منسوب لشخص أو جهة أو وثيقة، ويتضمن أحياناً كلاماً ينسب الى مسؤول في بلد ما. غالب هذا النوع يتضمن تفسيرات لحدث ما يشكل قضية ساعة. تتضمن مثل هذه التقارير في الغالب أخطاء في أسماء بعض الشخصيات أو البلدات أو الأماكن أو أخطاء في أحداث ما أو تواريخ يسهل اكتشافها، لكنها تمر ويتم تداولها وإعادة إنتاجها حتى من قبل المثقفين.
(ثالثاً): اختلاق معلومات ونسبها الى كتاب ما وأبرز مثال على هذا رسالة تطوف وسائل التواصل الاجتماعي منذ ثلاث سنوات على الأقل حول "اعترافات مزعومة" لهيلاري كلينتون وردت في كتابها أثناء انتفاضات "الربيع العربي". ثمة تلفيق مضحك في هذه الرسالة هو ذلك الزعم بأن مصر تصدت لسفن حربية أميركية في البحر المتوسط بسرب من مقاتلات ميغ 21، وكأن هذه المقاتلة المتقادمة هي جوهرة سلاح الجو المصري.
عدا رصد نماذج التلفيق في الحرب الدعائية، من المهم أن ندرك أن نماذج الأكاذيب هذه تنجح في الغالب حيث يميل الجمهور الى تصديقها أو أنها تستقر في وعيه لتصبح أداة للتشكيك. ومن وجهة نظري يعود هذا الى سببين رئيسيين:
(الأول): أن الحرب الدعائية تقوم غالباً على "التنميط"، أي على فكرة متداولة يتم ترسيخها بدأب ومثابرة عن العدو أو المستهدفين بالحرب الدعائية واكاذيبها لأن التنميط أسهل أداة لتمرير الأكاذيب، فهو يمثل (على نحو مضلل) ما اصطلح على تسميته "الإجماع العام".
(الثاني) اضافة الى التنميط، فإن أكثر النماذج الرائجة حاليا تقوم على منطق شعبوي. لقد بقيت الشعبوية وسيلة مثلى لا في المجتمعات النامية فحسب بل إن فعاليتها تتبدى أيضا حتى في المجتمعات الغربية وديموقراطياتها العريقة، ليس دونالد ترامب اخر الأمثلة بل تيار اليمين المتشدد في أوروبا بأسرها.
إن التنميط (Stereotyping) سلاح فعال لا يضاهى في فعاليته، وأبرز مثالين يمكن أن نقدمهما هنا، هو ذاك المتعلق بمخترع الرشاش الروسي الشهير "كي 47" ميخائيل كلاشنكوف أولاً ونماذج الدعاية الإسرائيلية ثانياً.
فبفضل مثابرة الصحافة الغربية التي لم تتوقف طيلة عقود وحتى اليوم في ربط ميخائيل كلاشنكوف بالضحايا الذين يسقطون في صراعات لا حصر لها عبر العالم، أصبح اسم الرجل مقروناً بالشيطان والقتل. ففي كل حديث عنه حتى لو كان خبراً صغيراً، لابد أن تذكر الصحف الغربية أن البندقية الأسطورية "كلاشنكوف" يموت بسببها الكثيرون حول العالم.
إن تنميط كلاشنكوف أمر ينطوي على خبث، لأنه مبني على فعالية البندقية المجربة وتفوقها. لكن هذا التفوق يتم توظيفه لشيطنة صاحبها الذي لم يرد سوى أن يقدم لبلاده بندقية تدافع بها عن نفسها في الحرب العالمية الثانية بعد أن وصل شح الموارد أثناء هذه الحرب الى أن يشترك كل ثلاثة جنود روس [سوفييت وقتذاك] في بندقية واحدة.
أما نموذج الدعاية الإسرائيلية فهو الأكثر فعالية ونجاحاً خصوصا لجهة اعتماده على "التنميط" بدرجة عالية ومكثفة. فعلى مدى عقود، رسخ خبراء الحرب النفسية الإسرائيليون [عبر التكرار استلهاماً لتعاليم وزير الدعاية النازي غوبلز] صورة نمطية عن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تتراوح ما بين "المليونير" و"الخائن". لقد بنى خبراء الحرب النفسية في الموساد هذه الصورة اعتماداً على أن عرفات كان يدير أموال منظمة التحرير الفلسطينية. ولقد صدم الفلسطينيون والعرب عندما اكتشفوا بعد وفاته أن الرجل لم يكن يملك أكثر من بدلتين عسكريتين وبضع متعلقات شخصية لا تزيد عن كوفية أو اثنتين وفرشاة أسنان. وصدموا أكثر عندما عرفوا أن الرجل الذي كانوا ينعتونه بالخائن أحياناً مات مسموماً من قبل الإسرائيليين بمادة "البلونيوم 10" المشعة.
ثمة وجه آخر أكثر إقلاقاً هو ذاك المتعلق بالذهنية العربية التي تميل للدعاية وتتشربها بكل سهولة ويسر عوضا عن الحقائق. السبب هو أنها "ذهنية انفعالية" وليست تحليلية، تعيد انتاج القصص المتداولة من دون أن تحللها أو تخضعها للفحص والشك المنطقي. لهذا فإن العرب ينفعلون أولا ثم يحاولون أن يفهموا صحة الأسباب التي دعتهم للانفعال. وهذا بالضبط ما يعرفه خبراء الحرب النفسية الإسرائيليون عن هذه الذهنية، وهذا ما سيقودنا الى حقيقة مؤسفة هي أن المثقفين العرب هم أول وأكثر من يقع تحت سطوة الحرب الدعائية الإسرائيلية، وهم أكثر من يعيد إنتاج هذه الدعاية ويرسّخها عبر التكرار وإعادة التداول مقدمين بذلك خدمة مجانية لا تقدّر بثمن للإسرائيليين.