ظل الرسول، عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى الله سبحانه وتعالى ودينه الجديد في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة.
وقد درسنا هذا في جميع مراحلنا العمرية بداية من المرحلة الابتدائية حتى الجامعية، وقالوا لنا في مسببات الهجرة أن الرسول وأصحابه هاجروا إلى المدينة للتخلص من إيذاء الكفار لهم، ولكن لننظر إلى هذا الحدث الهام في تاريخنا الإسلامي بمنظور مختلف ومغاير.
منذ بداية الدعوة الإسلامية ونزول الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام، وبداية هذا الدين الجديد وكل الأمور تتجه لإيجاد منظومة حياة متكاملة تلغي بأثرها ما عانت منه الأمة من مشاكل مجتمعية وإنسانية في المقام الأول، وهذا حال جميع الأديان، فما الذي عانت منه هذه الأمة التي أنزل الله عليها هذا الدين الجديد ليقوّم سلوكها ويهذب أخلاقها.
ومن آخر كلمة في الفقرة السابقة نستدل على المشكلة الأهم التي جاء الإسلام ليقوّمها ويجعل لها ضوابط وروابط، وهذا لا يعني أن المجتمع في الجاهلية لم يتسم بأي نوع من أنواع الأخلاق، فهناك الكثير من الأخلاق التي وافقت الطرح الجديد وحث الإسلام عليها، الذي جاء ليضع هذه الأخلاق بمنظومة واحدة لها حسابها وعقابها.
بعد أن عانى الرسول عليه الصلاة والسلام، مع أهل مكة حيث كانت السيادة والعبودية هي المنظومة الأوحد التي تحكم الناس جاء الإذن بالهجرة إلى المدينة، والتي كانت بداية لتأسيس مجتمع مدني قائم على قوانين وتنظيمات محددة يسير عليها الجميع فتنظم حياتهم وتجعلها مسلكاً منيراً بدلاً من ضبابية الحياة في العصر الجاهلي.
لو نظرنا إلى حادثة الهجرة وما الذي اختلف في نظام الدولة المكية والمدنية فسنجد بأن الاختلاف شاسع وكبير، ففي مكة المكرمة السلطة والكلمة والقوة هي لسادة قريش ولا يمكن أن يتساوى أبو جهل ببلال الحبشي، ولهذا رفض كفار قريش هذا الدين الجديد، أما في المدينة فالمهاجرون والأنصار تقاسموا هذه السلطة فيما بينهم، ومن هنا يظهر لنا أول أركان المجتمع المدني وهو المساواة والعدالة المجتمعية.
درسنا في كتب السيرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام، هاجر إلى المدينة وفيها ثلاث قبائل من اليهود: هم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، ولم ينازعهم على سلطتهم وسلطانهم أو عقائد دينهم، مع العلم أن اليهود في المدينة كانوا يشكلون ثقلاً مالياً ودينياً، فهم كبار التجار في المدينة، وبهذا عمل رسولنا على إيجاد ثاني أساس للمجتمع المدني وهو التسامح والتعامل مع الآخر.
وبعد قيام كيان هذا الدين الجديد في المدينة جاءت الخطوة الأهم لرسم ملامح الدولة المدنية عندما أوجد «معاهدة المدينة» أو ما يعرف بدستور المدينة، والذي يعد القانون المنظم للحياة والذي يضع أساساً للمواطنة ونظامها الدستوري القانوني، وبهذا تكمل عناصر المجتمع المدني (سلطة قائمة على التشاركية «ديمقراطية»، سيادة الشريعة مهما اختلفت الأجناس والألوان، تعددية دينية مصانة بموجب الشريعة).
بعد أن وضع الرسول عليه الصلاة والسلام، العناصر الأساسية للمجتمع المدني يأتي دور العمليات التنظيمية لهذا المجتمع والذي أهمه أن يحفظ الأمن والأمان بداخله، وقد ذكر ابن إسحاق:
«أن رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، قال «إن الله قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها» فخرجوا، أي صحابة رسول الله، إليها أرسالاً»، وهذا ما علم رسولنا بأمر حدوثه مسبقاً قبل الهجرة، فالأمان والأمن مطلب مهم والذي سيتحقق بوجود العناصر الأساسية الثلاثة للمجتمع المدني الذي جاء الإسلام ليؤسس له ويوجده في مجتمع قبلي قائم على السادة والعبيد.
هذا أساس ما جاء الإسلام ليركز عليه، ولعل في تجربة النبي وهجرته مثالاً لتحول النظام من القبلي إلى المدني، من السادة والعبيد إلى الوطن والمواطنة، من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وكم نحن بحاجة اليوم إلى أن نهاجر إلى المجتمع المدني الذي هدفه تحسين حياة الناس وحفظ أرواحهم وعدم تنازعهم إلا في سبيل الوطن والمواطنة.
إن ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي هو تنازع جميع الأطياف والمذاهب على أن تكون الغلبة لها، وبعد أن وجد الجميع أن من الصعوبة بمكان أن يكون لها سلطة على أرض الواقع بإيجاد بقعة أرض يمارسون عليها سلطتهم فراحت أفكارهم الشيطانية للتنازع على ما هو أكبر بوجهة نظرهم، التنازع على «الجنة» فنصبوا أنفسهم حراساً على أبوابها، وجعلوا مواطنتهم تبيح قتل الأبرياء من كان هدفهم أداء الصلاة أو ممارسة أشكال الحياة المدنية بأمان.
سكتنا طويلاً عن إيجاد مفهوم المجتمع المدني الذي ينادي بالتعددية التشاركية كأساس ونظام للحريات في المعتقد والفكر، وها نحن اليوم نواجه تشدد أَمر فاتورته أطفال ورجال ونساء أبرياء.
عندما هاجر النبي، عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة كان يسطر درساً للتاريخ لكيفية بناء دولة قائمة على المواطنة الإيجابية التشاركية التي تحترم من يتعايش معها وتحفظ له الروح والجسد بعيداً عن الإيذاء الجسدي أو النفسي أو حتى الترهيب الفكري، ولكن عندما درسنا تاريخنا ورحنا نمجد بأن هذه النقلة أو الحادثة كانت بداية تأسيس دولة خلافة.
بينما هي لم تكن كذلك أبداً، فلم يأت الرسول، عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة ورفع على أبنيتها أعلاماً تدل على دولته، إنما جاء بمنظومة مدنية تحفظ الحقوق وتبين الواجبات وتضع تقييماً للمواطنة الصالحة عن غيرها من المواطنة المزيفة، وتحكم بين الناس بالعدل والمساواة بدلاً من المنهج القائم على العبودية والقبلية.