السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا في هذه الأوقات الصعبة هو: هل كان «ترامب»- رغم سلطاته الواسعة- يستطيع أن يصدر قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبدء إجراءات نقل سفارة بلاده للقدس الأسيرة، إذا لقي معارضة حقيقية من المؤسسات الفاعلة في الإدارة الأميركية ذات الصلة بالموضوع «الخارجية- الدفاع- المخابرات- الأمن القومي».
وبمعنى آخر هل ينبغي أن نتعامل مع القرار على أنه تصرف فردي أم على أنه سياسة لإدارة أميركية ترى مصلحتها ومصلحة الولايات المتحدة في هذا القرار؟!
قبل الإجابة عن السؤال، دعونا نؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية تعرف أكثر من غيرها موقع القدس في قلوب مئات الملايين من العرب، ومليارات المسلمين والمسيحيين في أنحاء العالم، وأن الرؤساء السابقين لأميركا «كلينتون وبوش الابن وأوباما» لم تكن تنقصهم الشجاعة لاتخاذ القرار كما يقول «ترامب».
ولم يكونوا منحازين للعرب أو معادين لإسرائيل حين أرجأوا التصديق على القرار التعيس بشأن القدس، لكنهم كانوا يدركون النتائج الكارثية لوضع قرار اتخذه الكونجرس بشأن القدس لأسباب انتخابية محلية موضع التطبيق!
وقد يكون السيد «ترامب» قد وصل إلى نقطة فارقة في ملف التحقيقات بشأن التدخل الروسي في انتخابه للرئاسة، وأراد أن يهرب للأمام، وأن يضمن ولاء الكونجرس حتى لا يتم عزله! وقد يكون قد ابتلع وهم أن العالم العربي بحالته الراهنة ليس قادراً على فعل شيء إذا اتخذ مثل هذه الخطوة التي يتصور أنه سيدخل التاريخ دون تكلفة تذكر.
لكن المؤكد أن هناك في الإدارة الأميركية والمؤسسات الأساسية المشاركة في صنع القرار السياسي من يدركون أن العبث بهذه الطريقة بوضع المدينة المقدسة سوف يفتح أبواب الجحيم إن عاجلاً أو آجلاً!
فلماذا تم تجاهل هذه الأصوات؟! ولماذا لم يسمع الرئيس الأميركي للأصوات العاقلة من كل زعماء العالم وهي تحذر وتنصح، وأصر على أن يشعل النيران وهو يدرك أن الحريق سيمتد وأن إطفاءه سيمر عبر حروب ومآس لن تكون بلاده بعيدة عنها؟!
منذ اندلع الصراع على أرض فلسطين، كان أحد العوامل الأساسية التي تحدد بوصلة النضال العربي هو ضرورة الحفاظ على الطابع الأساسي للصراع، وعدم الوقوع في الفخ الصهيوني الذي كافح منذ البداية لتحويل القضية إلى حروب دينية.
بينما كان إصرارنا الدائم على أن القضية هي قضية تحرير وطن وصراع مع احتلال استيطاني لا حق له في أرض فلسطين ولا مكان له عليها، مهما ارتكب من جرائم نازية، ومهما لقي من دعم من أرادوا زرع هذا الكيان الصهيوني اللقيط في المنطقة ليظل شوكة في صدر العرب، ومانعاً لوحدتهم، وقاعدة للعدوان عليهم ومنع تقدمهم واستنزاف قواهم.
على مدى السنين خضنا هذا الصراع الذي فرض علينا، منطلقين من أن القدس فلسطينية، وأن فلسطين عربية، وأن كل ما عدا ذلك مصيره الزوال، الآن يأتي قرار «ترامب»، لكي يفتح أبواب حرب قد يعرف من يشعلون نيرانها نقطة البداية فيها، لكنهم لا يعرفون بالقطع إلى أين تتمدد، ولا كيف تنتهي.
ولا تأتي هذه الخطوة من فراغ، إنها تأتي بعد سنوات من إعداد مسرح العمليات واستغلال كل التناقضات للدفع بالمنطقة نحو صراع طائفي، ولإثارة الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، ولدعم كل جهد لهدم الدولة الوطنية، ولمساندة مخطط تسليم حكم البلاد والعرب لجماعة الإخوان وأنصارهم وهو المخطط الذي أسقطته مصر في 30 يونيو.
فكان الرد هو دعم الإرهاب في سيناء المصرية وإطلاق داعش في سوريا والعراق، وأخذ اليمن وليبيا إلى الفوضى وحكم المليشيات، وفتح الأبواب أمام تمدد النفوذ الإيراني لنشر الإرهاب والفتنة في المنطقة.
ولا تأتي خطوة ترامب الحمقاء من فراغ، إنها تأتي في أعقاب جهد عربي استشعر الخطر، وتصدى للإخوان حتى أسقطهم، وأوقف التمدد الإيراني في لبنان، وتدخل ليقاتل من أجل إنقاذ اليمن من براثن عملاء طهران، وقاطع حكام الدوحة حتى يثوبوا عن خطاياهم، ويوقفوا دعمهم للإرهاب، وبدأ خطوات للمصالحة الفلسطينية قادتها مصر بنجاح.
كان كل ذلك يعني وعياً بالخطر، وإصراراً على المقاومة، وعودة للطريق العربي باعتباره الطريق الوحيدة للإنقاذ في مواجهة كل هذه المخاطر. وكان جيداً أن نسمع من الإدارة الأميركية وعلى رأسها «ترامب» حديثاً صاخباً عن قياداتها للجهد العالمي لضرب الإرهاب، وعن تصديها لمحاولات إيران المتصاعدة لمد نفوذها في المنطقة والتدخل في شؤون دولها، ناهيك عن حديث «ترامب» الواثق بقدرته على تحقيق «صفقة القرن» كما سماه لتحقيق السلام في أرض فلسطين، ثم تأتي المفاجأة مع قرار «ترامب» حول القدس.
لا ليغلق الرئيس الأميركي فقط الطريق على أي جهد لتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، لكنه يفتح الباب على مصراعيه أمام حروب أخرى بعد أن أصبح شريكاً فاعلاً في اغتصاب القدس مع إسرائيل، ثم هو يعطي بقراره قبلة الحياة لكل الجماعات المتطرفة التي كانت، قبل القرار، تتخفى وراء شعارات «العداء لأميركا والموت لإسرائيل»، ثم تطلق رصاصاتها على أبناء الوطن.
أو تهتف بأن أنصارها «على القدس رايحين» فإذا بهم يقتلون المصلين الآمنين في سيناء! يمنحهم الآن قرار ترامب زاداً جديداً للتطرف بعد أن كانوا قد انكشفوا أمام الناس وبانت حقيقتهم كونهم عملاء يخونون الدين والوطن.
ويقدم قرار «ترامب» الدعم نفسه للمليشيات التابعة لطهران، ويضع كل الحديث الصاخب من الرئيس الأميركي عن مواجهة بلاده هذا الخطر في مهب الريح.
ويبقى الأخطر في دلالات قرار «ترامب» حول القدس، هو أنه تأكيد لاستمرار محاولة إغراق المنطقة، والحرص على بقاء العالم العربي تحت ضغط التهديد سواء من إيران أو إسرائيل، وسواء من عصابات الإخوان والدواعش، أو المليشيات المدعومة من إيران وحرسها الثوري!
ستبقى القدس عربية وستكون فلسطين لأهلها وليس للغزاة، لكن علينا أن نعيد قراءة الواقع، وأن ندرك حجم المخاطر، وأن نمتلك الاستراتيجية المطلوبة لمواجهتها، والإرادة اللازمة لإدارة صراع قد يكون صعباً وطويلاً، لكننا نملك القدرة على أن ننتصر رغم كل التحديات.