في مقالي الأخير في هذه الصفحة والمنشور بتاريخ 28 نوفمبر، تساءلت عن الأسباب التي تجعلنا نتقبل الأخبار المزورة، ولم يمض وقت كثير حتى جاءت ردود الفعل حيال إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، لتقدم تطبيقاً عملياً للسبب الرئيس، أي الذهنية الانفعالية العربية وقابليتها (الفطرية) لتقبل التزوير.

ففي غمرة ردود الفعل (الانفعالية) هذه، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي نوعاً جديداً هذه المرة من الأحاديث والمقتطفات المنسوبة لشخصيات شهيرة. هذه المرة كانت الشخصية (بالطبع شخصية متوفية لا تستطيع التوضيح ولا التعقيب) هي الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو.

فلقد نسب إليه مقتطف تم تداوله على تويتر (بحساب ذي اسم عربي) وتم تناقله تالياً عبر تطبيق واتس أب، يقول إن كاسترو قال عندما سئل عن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين: «أنا لا أفهم هذه المفاوضات، لو كنت أنا لفاوضت اليهود كيف يريدون الرحيل براً أم بحراً أم جواً».

وفي استخدام ثانٍ للماركة الجديدة (كاسترو)، تم تداول صورة له مع تشي جيفارا وهما يسيران على علم إسرائيلي على الأرض مع تعليق يقول «عندما يفترش العرب السجاد الأحمر ليسيروا عليه، كان جيفارا وكاسترو يفرشان علم إسرائيل لتطأه قدماهما.. هكذا يكون الرجال».

ورغم معرفتي المسبقة بأن الكلام المنسوب لكاسترو مزور ومنتحل والصورة معالجة بالفوتوشوب، إلا أنني قمت ببحث على شبكة الإنترنت لكي أتحقق من المقولة ومن الصورة، لقد قمت بالبحث بثلاث لغات، العربية والإنجليزية والإسبانية.

لم أجد أي أثر للمقولة المنسوبة لكاسترو حول المفاوضات بأي من اللغتين الإنجليزية والإسبانية، أما بالعربية فوجدت نفس ما راج في «تويتر» وليس من أي مصدر موثوق آخر. أما الصورة فلقد عثرت على أصول لها في بضع صحف بالإسبانية ونسخة حديثة منها في صحيفة «ديلي تليغراف» الإنجليزية ضمن صور أخرى وردت في مقال منشور بتاريخ 8 أكتوبر الماضي بعنوان «نهاية وحشية لتشي جيفارا، فتى الثورة الكوبية» كتبته ماريا دونالي وهي صحافية متخصصة في التاريخ مثلما قدمتها الصحيفة. الصورة هي نفسها التي انتشرت لكاسترو وجيفارا لكن بالتأكيد لم يكونا يدوسان على علم إسرائيل.

لقد عثرت على مقولات عدة لكاسترو بالإنجليزية والإسبانية حول الصراع العربي الإسرائيلي لم يكن بينها تلك المقولة التي راجت في وسائل التواصل الاجتماعي. من بين هذه المقولات: «إن السكان العرب في فلسطين هم ضحايا أعمال إبادة بشرية، أراضيهم تصادر ويحرمون من إمدادات المياه في المناطق شبه الصحراوية، ويتم تدمير منازلهم بالبلدوزرات».

ومقولة أخرى يهاجم فيها الولايات المتحدة بقوله: «لم تتوقف الولايات المتحدة عن التآمر ضد العالم العربي الذي يضم أكبر احتياطيات النفط في العالم». وقبل السؤال عن الأسباب التي تقف وراء إطلاق وترويج مقولات من هذا النوع في غمرة ردود الفعل حيال قضية مصيرية مثل مستقبل مدينة القدس المحتلة، لنتساءل عن المقولة نفسها: ما هي الخلاصة الوحيدة من تلك المقولة [المزورة]؟ الخلاصة: «ذم في الفلسطينيين».

أما الصورة، فلقد كان يتعين التوقف أمام التعليق المرفق معها بقليل من الشك العقلي. فهل «يفترش العرب السجاد الأحمر ليسيروا عليه» بشكل يومي؟ وهل هذا فعل يقوم به كل عربي أم أنه بروتوكول يقتصر على استقبال رؤساء الدول لا في الدول العربية بل في كل دول العالم؟ المؤسف أن أحداً لا يتساءل ولو لثوانٍ معدودة.

وإذا تساءلنا عن الخلاصة الوحيدة في صورة كاسترو وجيفارا المزورة أيضاً وتلك المقولة الركيكة التي كتبت معها، فهي النتيجة نفسها: «ذم وطعن في رجولة العرب».

لقد تم اختيار كاسترو لتزوير المقولات هذه المرة لأنه شخصية ثورية ومؤيد وداعم للحق الفلسطيني، لكنه بعيد عن معرفة الجمهور المستهدف بهذا التزوير ناهيك عن أنه متوفٍ.

فالعرب لا يعرفون أكثر من هذه العناوين عن كاسترو لهذا سيصدقون أي مقولة تلصق به حتى لو كانت منافية لطبيعته وحتى لو كتبت بلغة ركيكة وبذهنية بلطجي وليس زعيم دولة عاقل ورصين. أما الصورة فهي مصداق لهذا، لأن في التعليق المصاحب لها اصطناع يسهل اكتشافه، كما أن البحث عن أصل الصورة لدقائق يمكن أن يثبت أنها مركبة ومزورة.

لم يحدث هذا للمرة الأولى بل في كل أزمة مماثلة وفي كل حرب تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، يتم تحويل الغضب لا باتجاه المجرم والجلاد الحقيقي بل باتجاه آخر: تجاه الفلسطينيين [الضحايا] أنفسهم وتجاه العرب عبر ترويج هذه المقولات التي ليس لها سوى خلاصة وحيدة:

«جلد الذات وترسيخ الشعور بالتصاغر والهزيمة». الجزء المتمم لهذا هو موجة التعليقات والمسبات الموجهة لدول الخليج بعد ترويج أكاذيب وادعاءات بأنها تقف مع إسرائيل أو أنها تخلت عن الفلسطينيين.

فكل أزمة من هذا النوع تترافق دوماً مع موجة سباب وشتائم لدول الخليج يقع ضحيتها الفلسطينيون أيضاً وعرب آخرون وللأسف صحافيون ومثقفون. رغم تكرار الأمر سنوات طويلة، لا يتوقف أحد لكي يتساءل: لماذا تتحول طاقة الغضب لدى العرب كلما مروا بأزمة كهذه نحو بعضهم وكأن الأمر قدر محتوم؟ إنها الذهنية الانفعالية التي يعرف الإسرائيليون كيف يتلاعبون بها.