تعرضت أمم كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي تواجه العرب، كمشكلة الاحتلال الإسرائيلي أو التدخل الأجنبي في الأوطان العربية، أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها.. لكن من الصعب أن نجد أمة معاصرة امتزجت فيها كل هذه التحديات في آنٍ واحد كما يحدث الآن على امتداد الأرض العربية.

فخليط الأزمات يؤدي إلى تيه في الأولويات، وإلى تشتت القوى والجهود والأهداف، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرف من أرجاء الأمة بينما هو الهم الشاغل للطرف الآخر.

لقد عاش العرب حقبة زمنية مضيئة في منتصف القرن العشرين حينما كانت هناك مرجعية فاعلة وبوصلة سليمة، فكانت أولويات العرب واحدة وجهودهم مشتركة من أجل معارك التحرر الوطني من الاستعمار الأجنبي، ثم جاءت حقبة الستينات التي طغت عليها قضية الصراعات الاجتماعية إلى حين الهزة الكبرى للمنطقة التي أحدثتها هزيمة العام 1967، إذ تبين أن الصراع مع إسرائيل، بل وجود إسرائيل نفسها في المنطقة، قادر على الإخلال بأي توازن يصنعه العرب لأنفسهم، وبأنه يدفع الكثير من الأولويات إلى الخلف، وبأنه يهدم إنجازات كبرى تكون قد تحققت في قضايا أخرى.

هكذا كان الدرس الذي أدركته مصر عقب حرب 1967، حيث تراجعت الأولويات في قضايا الوحدة والتغيير الثوري للمنطقة، وبرزت أولوية المعركة مع إسرائيل. فكان التركيز بعد هزيمة 1967 على مواجهة التحدي الإسرائيلي ووقف الصراعات العربية/‏‏‏العربية مهما كانت مشروعية بعضها، وبناء ركائز سليمة لتضامن عربي فعال ظهرت نتائجه المهمة في حرب أكتوبر 1973.

حدثت بعد ذلك، الكثير من الحروب الاستنزافية للأمة العربية في الوقت الذي ازداد فيه سوء إدارة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

الآن، تعيش الأمة العربية، إضافة للاحتلال الإسرائيلي، كل أنواع الحروب الأهلية والتدخلات الإقليمية والصراعات الدولية وأعمال العنف والإرهاب وبروز جماعات متطرفة في أكثر من بلد عربي.. لذلك، هي حاجة كبرى الآن إعادة تصحيح البوصلة في الحد الأدنى، وهو أمر أفرزته ردود الفعل العربية المشتركة على قرار ترامب بشأن القدس، وتلك مسؤولية تقع على مفكري هذه الأمة وقياداتها وقواها المدنية الفاعلة.

صحيح أن المسألة الديمقراطية هي أساس مهم للتعامل مع كل التحديات الخارجية والداخلية، لكن العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيد، وتفترض حمولة مناسبة على هذه العربة، وهدفاً تسعى للوصول إليه. فتوفُر الآليات السياسية للديمقراطية وحدها لن يحل مشكلات الأوطان العربية، بل العكس حصل في بلدان عربية عدة شهدت من الديمقراطية مظاهرها فقط وآلياتها الانتخابية بينما ازدادت المجتمعات انقساماً وتأزماً.

مسؤولية كبيرة عما هو عليه الواقع العربي الراهن تقع على الإدارات الأميركية المتعاقبة، فهي التي أوجدت هذا المناخ المتأزم عربياً بعد احتلال العراق، وفي ظل التهميش المتعمد على مدار عقود من الزمن لتداعيات القضية الفلسطينية. واشنطن هي التي دعت لمفاهيم «الفوضى الخلاقة» و«النماذج الديمقراطية» الجديدة في المنطقة، وهي التي جمعت في أسلوب تحكمها بالعراق بين انفرادية القرار الأميركي بمصير هذا البلد حينما احتلته، وبين تقسيم شعبه إلى مناطق متصارعة تبحث كل منها عن نصير إقليمي داعم لها، فكانت النتائج لغير صالح أميركا أو العراق أو العرب!

وواشنطن هي التي عجزت عن وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فكيف عن إجبار إسرائيل على الانسحاب من هذه الأراضي وبناء دولة فلسطينية مستقلة عليها تكون عاصمتها القدس؟!. وواشنطن هي التي تحترم «رغبات» إسرائيل وتدعم دورها الفاعل في المنطقة، وهل هناك أصلاً من مصلحة إسرائيلية في إعادة إعمار سوريا والعراق، وبأن يكون كل منهما بلداً موحداً قوياً ديمقراطياً؟ وهل كان لإسرائيل مصلحة في استمرار وجود لبنان كدولة ديمقراطية مستقرة قائمة على تنوع طائفي، وكنموذج بديل لحالتها العنصرية الدينية، وهي الحالة اللبنانية التي عملت إسرائيل على تحطيمها أكثر من مرة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي؟!

فمسكين ذاك الذي يصدق في أميركا والغرب أن إسرائيل ستدعم بناء مجتمعات ديمقراطية مستقرة في الشرق الأوسط، حتى لو قامت جميعها بالتطبيع مع إسرائيل، إذ هل هناك من مصلحة إسرائيلية في إقامة دول منافسة لها تلغي خصوصيتها تجاه أميركا والغرب؟!

وقد كثر الحديث في السنوات الماضية عن مسؤولية حكومات أو عن مؤامرات خارجية أو عن الأسباب الموضوعية لضعف وتشرذم قوى التغيير، بينما المشكلة هي أصلاً في الإنسان العربي نفسه.

ما جرى أيضاً في بلدان عربية عدة هو محاولات كسر وتحطيم مقومات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تعد تميز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصد منها أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودة في كل المجتمعات العربية، سواء أكانت منتفضة الآن أم مستقرة إلى حين.