تلازم انطلاق الثورة الفلسطينية في 1 يناير 1965 مع حدث آخر مهم لكنه لا يثير الانتباه. فبعد أقل من شهرين من انطلاق الثورة في 1 يناير 1965، تأسس مركز الأبحاث الفلسطيني في 28 فبراير 1965 كإحدى مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964. سيمثل هذا التلازم ملامح المقاربة التي كانت تحكم النضال الفلسطيني لعقود ثلاثة لاحقة في فترة مثلت أوج النضال الفلسطيني.

لقد كان ذلك المركز كان أول مركز أبحاث من نوعه في البلدان العربية، فأهم وأشهر مركز أبحاث ودراسات عربي وهو مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أنشئ في عام 1968، أي بعد تأسيس نظيره الفلسطيني بنحو عامين. لقد كان تلازم الثورة مع تأسيس المركز تعبيراً عن رؤية شاملة للنضال الفلسطيني تربط البندقية بالمعركة الثقافية والفكرية الأشمل مع العدو. على هذا المستوى، مثل مركز الأبحاث الفلسطيني بدوريته «شؤون فلسطينية» وإصداراته من الكتب ونشاط التوثيق الذي كان يقوم به والرصد الدقيق لكل ما له صلة بإسرائيل، الجزء الأكبر من العقل الفلسطيني الذي كان يقارع إسرائيل على المستوى الشامل.

ضمن هذا الفهم الشامل للصراع مع إسرائيل، كان مركز الأبحاث الفلسطيني عنواناً لنضال دؤوب ومثابر انخرطت فيه نخبة من المثقفين الفلسطينيين في المهجر مثل الدكتور ادوارد سعيد والبروفيسور إبراهيم ابولغد والبروفيسور رشيد الخالدي ود. فايز ود. انيس صايغ والدكتور مهدي عبد الهادي والشاعر محمود درويش وغيرهم العشرات من نخبة المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين.

لقد لعب هؤلاء أدواراً نوعية ومميزة في النضال الفلسطيني عبر نضالهم الفكري والثقافي الدؤوب الذي استطاعوا من خلاله كسب تأييد قطاعات واسعة ومؤثرة من المثقفين في أوروبا على وجه الخصوص. لقد كانوا يملكون المعرفة والعلم وكانوا يعرفون كيف يخاطبون الغرب ومؤسساته الثقافية والفكرية بلغة الثقافة والفكر، لم يكونوا مقاتلين لكنهم كانوا أفضل سفراء للثورة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني. على هذا النحو، جسدت منظمة التحرير في تلك السنوات الثورة في صورتها المثلى بوصفها ثورة شاملة تتلازم فيها البندقية بالفكر والثقافة.

لقد تعلم أجيال من العرب الكثير من هذا الدور الريادي للمثقفين الفلسطينيين لا على مستوى النضال ضد الصهاينة فحسب، بل العمل وفق أسس علمية في النضال ضد الإسرائيليين وهو ما يبرزه الدور الذي لعبته الدوريات والمجلات والكراسات الفكرية والسياسية التي كان يصدرها مركز الأبحاث الفلسطينية والمؤسسات الثقافية الفلسطينية الاخرى.

لن يكون بإمكاننا عرض الأهمية التي كان يمثلها مركز الأبحاث الفلسطيني والأهمية التي يمثلها العمل الفكري والثقافي في النضال الفلسطيني إلا عندما نتذكر ما جرى بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت بعد اجتياح لبنان عام 1982.

فبعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين، لم يتوجه الإسرائيليون إلى مقار منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها ولا إلى مخازن السلاح، بل توجهوا من فورهم إلى مركز الأبحاث الفلسطيني. لقد دخل الجنود الإسرائيليون إلى مبنى المركز في أحد الشوارع المتفرعة من شارع الحمرا في بيروت برفقة خبراء وثائق إسرائيليين إلى مبنى المركز وقاموا بنهب محتوياته كلها بإشراف خبراء الوثائق الذين أشرفوا على تصنيف المحتويات قبل تحميلها في الصناديق التي حملوها في عشرات الشاحنات التي توجهت مباشرة إلى فلسطين المحتلة.

لم يستعد الفلسطينيون وثائق المركز إلا في العام التالي 1983 ضمن عملية تبادل للأسرى شملت استعادة وثائق مركز الأبحاث الفلسطيني وأرشيفه وتم تسليم عشرات الصناديق التي تضم وثائق المركز إلى الجزائر. لكن هذه لم تكن نهاية سعيدة ولم تكن بداية لإعادة افتتاح المركز واستعادة نشاطه من جديد، بل كانت مقدمة الفصل الأخير في نهاية المركز.

تلك قصة مؤلمة للكيفية التي يمكن أن تضيع فيها المكتسبات لدينا وتتحول إلى هباء بأيدينا نحن للأسف الشديد.

لكن العبرة في النهاية المأساوية لمؤسسة بحثية وثقافية مثل مركز الأبحاث الفلسطيني، تماثل في محصلتها نهاية الدور الطليعي الذي لعبته النخبة الفلسطينية المثقفة في العقود الماضية من عمر الصراع العربي - الإسرائيلي واختفاء تلك الأسماء اللامعة التي كانت في قلب ذلك الدور التاريخي.

لقد غيب الموت بعضاً من هذه النخبة وتقدم العمر بآخرين، لكن ما يستوقفني في قصة مركز الأبحاث الفلسطيني هو أن الفراغ الذي خلفه غياب المركز باعتباره أداة لإنتاج المعرفة ومعه نخبة فلسطينية لامعة من المثقفين، امتد ليشمل نطاقاً جغرافياً أوسع بفعل احباطات توقف المفاوضات.

منطق بدأت تسوده للأسف مقولات غير عقلانية وعدمية، بل إن اخطر ما فيه هو أن المثقفين باتوا لا يملكون أي حصانة من الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية التي باتت تستحوذ عليهم بشكل لا يصدق، في مقابل غياب كامل لمصادر وأدوات المعرفة الفلسطينية مثلما كان عليه الوضع في تلك العقود الذهبية للنضال الفلسطيني.

لقد كانت أدوات المعرفة والمتابعة اليومية والتوثيق متاحة لدى الفلسطينيين وكانت تقوم بدورها الفاعل لا على مستوى الفلسطينيين بل العرب ايضا يسندها في هذا نشاط دؤوب لنخبة من المفكرين والمثقفين اللامعين بإنتاجهم الفكري الثقافي الدؤوب الذي لم يتوقف. اين ذهبت كل هذه الأدوات التي كانت تتيح للفلسطينيين مقارعة إسرائيل فكرياً وثقافياً؟

العبرة الأهم هي أن إسرائيل لم تتوقف يوماً عن استهداف العقل الفلسطيني بالمعنى الأشمل، أي أنها لا تريد أن تواجه شعباً يفكر بعقلانية، فهل يعقل أن نسندها نحن ونقدم لها خدمة مجانية بتغييب دور المثقفين ومؤسسات البحث؟ أين ذلك العقل الفلسطيني الجبار؟