مع بدء عامٍ جديد، تقف المنطقة العربية أمام مفترق طرق وخيارات حاسمة حول قضايا تتفاعل منذ سنوات طويلة، وليس كحصاد للعام الماضي فقط. فما كان قِطَعاً مبعثرة ومتناثرة، من أزمات إقليمية متنوعة، ومن حالات فوضى وحروب أهلية ترافقت مع حالات ظلم واستبداد وفساد على المستوى الداخلي، ومن مفاهيم ومعتقدات فكرية وثقافية فئوية سائدة في المجتمعات، تجمعت كلها الآن وامتزجت مع بعضها البعض في ظل تنافس دولي وإقليمي اشتد مؤخراً من أجل حصاد ما جرى زرعه في السنوات القليلة الماضية.

وتتميز المنطقة العربية عن غيرها من بقاع العالم بميزات ثلاث مجتمعة معاً:

فأولاً، تتميز أرض العرب بأنها أرض الرسالات السماوية، فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلع كل المؤمنين بالله على مر التاريخ، وإلى مدنها المقدسة يحج سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.

وثانياً، تحتل أرض العرب موقعاً جغرافياً مهماً جعلها في العصور كلها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي المهم خرجت أو مرَت كل حضارات العالم سواء القديم منه أو الحديث.

وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيرات طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم. فهكذا هو الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي وصولاً إلى عصر «البترو - دولار» القائم على مخازن النفط في أرضنا.

وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محط أنظار كل القوى الكبرى الطامعة في السيطرة والتسلط..

فتحْتَ شعار «تحرير أرض مهد السيد المسيح» برر الأفرنجة (الصليبيون) غزواتهم للمنطقة العربية، بينما الهدف الحقيقي منها كان السيطرة على المنطقة العربية وخيراتها الاقتصادية، في ظل الصراعات والأزمات التي كانت تعصف بأوروبا.

وتحت شعار استمرارية «الخلافة الإسلامية» برَر العثمانيون سيطرتهم على معظم البلاد العربية..

وتبريراً لإقامة حاجز بشري يفصل المشرق العربي عن مغربه، كانت فكرة إقامة دولة إسرائيل في فلسطين بذريعة أنها أرض هيكل سليمان!!

كذلك الأمر بالنسبة للموقع الجغرافي الرابط بين القارات، منذ الإسكندر الكبير الذي احتل مصر وبنى الإسكندرية ليصل إلى شرق آسيا، وحتى مرحلة حملة نابليون، ثم الاحتلال البريطاني وبناء قناة السويس لتسهيل السيطرة على المحيط الهندي.

أيضاً، تتميز المنطقة العربية في تاريخها المعاصر عن باقي دول العالم الثالث، أن الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدة متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطة استراتيجية واحدة لكل أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة وفق ترتيبات دولية وضعتها القوى الأوروبية الكبرى في مطلع القرن العشرين.

ولقد أدى هذا الواقع الانقسامي، ولا يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوة فاعلة واحدة لمواجهة التحديات الخارجية أو للقيام بدور إقليمي مؤثر تجاه الأزمات المحلية، بل أدى أيضاً إلى وجود عجز أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزمات وصراعات داخل المنطقة مما برر الاستعانة بقوى أمنية خارجية في أكثر من مكان ومحطة زمنية.

حصل هذا الأمر أيضاً مع أوروبا الغربية التي اضطرت للاستعانة بالولايات المتحدة الأميركية لمعالجة تداعيات الحرب اليوغسلافية في عقد التسعينات بعدما عجزت دولها عن وقف هذه الحروب على أرضها، إذ رغم القوة العسكرية الخاصة للبلدان الأوروبية ورغم ما بينها من صيغ للتعاون الأوروبي إلا أنها افتقدت الأداة العسكرية المشتركة والإرادة السياسية الواحدة، فاضطرت إلى اللجوء لواشنطن لطلب المساعدة.

وقد نجحت الدول الأوروبية في تطوير صيغ التعاون فيما بينها على مدار سبعة عقود ماضية، رغم ما هي عليه من تباين عرقي وثقافي واجتماعي ومن تاريخ مليء بالحروب والصراعات الدموية، بينما لم يدرك العرب ذلك بعد، وعجزت جامعة الدولة العربية عن فعل ذلك رغم العمر الزمني المشترك بين التجربتين: الأوروبية المشتركة وجامعة الدول العربية! ألا يؤكد ذلك أن المشكلة هي في انعدام القرار السياسي أو في سوء استخدام هذا القرار وليس في توفر الظروف المناسبة أو الإمكانات المتاحة؟! فما يربط بين الدول العربية هو أكبر بكثير من عوامل الربط بين دول الاتحاد الأوروبي، لكن هناك على الطرف العربي غياب للقرار السياسي بالتعاون والتكامل، ثم أنه إذا توفر هذا القرار فيكون من خلال سوء أسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب وحدوية عربية عديدة أدت نتائجها إلى مزيد من الشرخ والانقسام بدلاً من الاتحاد والتعاون.

لكن أيضاً من دروس التجربة الاتحادية الأوروبية، أن هذه الدول تحكمها مؤسسات سياسية ديمقراطية وتُخضع قرار الاتحاد فيما بينها إلى الإرادة الشعبية في كل بلد فلا تفرض خيار الوحدة بالقوة، ولا يضم الكبير القوي في أوروبا... الصغير الضعيف فيها، وكان ذلك درساً كبيراً من دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية ومن تجارب ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية، حيث إنه تأكد لشعوب أوروبا أن خيار الديمقراطية، وأسلوب الإقناع الحر بأهمية الاتحاد، هما الطريق لبناء مستقبل أفضل لكل بلد أوروبي وللتعاون الأوروبي المشترك.. فهل أدرك العرب أيضاً هذه الدروس من تاريخهم وتاريخ تجارب الشعوب الأخرى؟!

إن سلبيات الواقع العربي الراهن لا تتوقف فقط على المخاطر الناجمة عن عدم إدراك دروس التاريخ والجغرافيا، بل أيضاً على كيفية رؤية وإعداد أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية.

ففي هذا الزمن الرديء الذي تمر به المنطقة العربية، تزداد مشاعر اليأس بين العرب وتصل ببعضهم إلى حد البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وتحميل العروبة مسؤولية تردي أوضاعهم. فهؤلاء يخلطون بين إيجابيات الانتماء للأمة العربية وبين الظروف التي تمر بها، أي الخلط بين العروبة وبين الأنظمة والمنظمات، بين الهوية الثقافية وبين الممارسات السياسية. فهي مشكلة التعامل مع الانتماء العربي بالنظرة الآنية إليه وليس بمقدار ما هو قائم موضوعياً.

إن الحالة العربية السوداوية الراهنة هي مسؤولية الرافضين لهويتهم العربية المشتركة قبل غيرهم، فهؤلاء هربوا من المشكلة إما إلى «الأمام» لانتماءات أممية تُغيب الهوية العربية (بأسماء علمانية أو دينية)، أو إلى «الخلف» بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية.

إن الأمة العربية تعيش الآن حالات انقسامية مرَضية بأسماء طائفية أو مذهبية أو إثنية، والبعض ينظر إليها للأسف من أطر جغرافية ضيقة وكأنها تحدث فقط في هذا البلد أو ذاك، وبمعزل عن التأثير الدولي والإقليمي المغذي لهذه الانقسامات في المنطقة كلها، وعن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهوية القومية اللذين يقوم كلاهما على التعددية ورفض التعصب أو الانغلاق الفئوي.

*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن