كان مشهداً استثنائياً لم يتكرر حتى اليوم، عندما فتحت مساجد البحرين أصوات الميكروفونات ورفعت درجة الصوت بعد صلاة العشاء، لتبدأ آلاف الأصوات تتداخل، وهي ترتل القرآن في ختمة طويلة. لقد كان المشهد مشحوناً وفياضاً بالمشاعر بشكل لا يوصف عندما كنت أحدق من سطح بيتنا تلك الليلة متأملاً سماء المحرق المرصعة بالنجوم، وأرى بيوت المدينة ومآذنها على مد البصر ترتفع من جنباتها آلاف الأصوات وهي ترتل بخشوع تتخلله أصوات متهدجة آيات من القرآن الكريم.

من كان هذا المتوفى الذي رتل عشرات الآلاف من البحرينيين القرآن على روحه في تلك الليلة؟ لقد كان جمال عبد الناصر الذي صادفت مئوية ميلاده الاثنين 15 يناير.

بعيداً عن المشاعر الجياشة والتقديس الذي يضفيه البعض على شخص عبد الناصر وبعيداً عن مشاعر التسفيه التي تصل إلى حد التخوين التي يكنها خصومه له أيضاً، لا تزال تجربته في الحكم تمثل أرضية صلبة للنقاش خصوصاً مع هذا التردي الذي أصاب غالب الدول العربية وحالة الاحتراب التي تعصف بأكثر من بلد عربي وتغول القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا.

هناك أكثر من فكرة رائجة عن عبد الناصر وعهده وتجربته تشكل أهم ما يدور عليه الجدل حوله بين مؤيديه ومناهضيه. من الجيد أن نعيد النقاش حول هذه الأفكار التي ارتبطت بجمال عبد الناصر:

(أولاً): أحب ملايين العرب عبد الناصر لأنه تصدى للمستعمرين وحلفائهم. هذا صحيح تماماً، ففي الوقت الذي كانت فيه غالب الدول العربية لا تزال خاضعة للاستعمار البريطاني والفرنسي، مثلت مقاومة عبد الناصر أملاً لكل الذين كانوا يناضلون من أجل التحرر من الاستعمار. لم يكن ذلك مجرد شعور بل جزءاً أساسياً من السياسات التي اتبعها عبد الناصر لاحقاً حيث قدم الدعم للثوار الجزائريين والثوار في جنوب اليمن وغيرها.

وإذ عاب عليه منتقدوه هذه السياسات بحجة أنها كانت تبديداً لجهود مصر وإمكاناتها، ينسى هؤلاء المنتقدون أن هذا «الدور/‏‏النموذج» هو أكثر ما رأى فيه الغرب وإسرائيل خطراً عليهم. في النهاية وأياً كان التقييم، فإن عبد الناصر مثل «فكرة» هي الأخطر بالنسبة للمستعمرين ولإسرائيل، لهذا كان التخلص منه بأي شكل أمراً ملحاً بالنسبة لهم لا لشخصه بل للفكرة والنموذج الذي مثله. كان نجاحه خطراً بالنسبة للغربيين لأن ذلك كان من شأنه أن يعمم الفكرة والنموذج الذي كان يمثله.

تظهر معركة تأميم قناة السويس كيف أن عبد الناصر الشاب وقتذاك والذي لم يمض عليه في الحكم أكثر من عامين استطاع كسب نتيجة المعركة النهائية رغم احتلال الأراضي المصرية ورغم العدوان الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، فلقد خرج عبد الناصر من تلك المعركة منتصراً، حيث استعاد قناة السويس للسيادة المصرية وكرس زعامته ووطد أقدام ثورته الوليدة.

(ثانياً): يرى مؤيدو عبد الناصر أنه كان صاحب رؤية وبنى نهضة اقتصادية في مصر عندما نشأت في عهده آلاف المصانع واتجه إلى بناء اقتصادي منتج يقوم على الصناعات الثقيلة والمتوسطة، بينما يرى منتقدوه أن التصنيع بدأ في مصر مبكراً وأن المصانع التي بناها القطاع الخاص المصري قبل ثورة يوليو 1952 كانت تمثل قاعدة صناعية أراد واضعوها الانطلاق للمستقبل وأن عبد الناصر جاء وأكمل على أساس كان موجوداً بالأصل.

كلا الرأيين صحيح ويبدو أن المتجادلين حول هذه النقطة فاتهم القاسم المشترك هنا، فكلتا التجربتين تنطلقان من فكرة واحدة وهي الاعتماد على الذات، فإن صح الاستنتاج بأن زخم رؤية طلعت حرب كانت لا تزال مستمرة مطلع الخمسينيات في مصر، فإن الاتجاه نحو التصنيع في عهد عبد الناصر أو التوسع فيه يمكن اعتباره مكملاً لذلك الطريق، الذي أرساه طلعت حرب وبورجوازية الثلاثينيات مع فوارق التوجه ما بين مبادئ السوق الحر والتوجهات الاشتراكية لعبد الناصر. كلتا التجربتين تنطلق من مبدأ الاعتماد على الذات وبناء اقتصاد إنتاجي.

(ثالثاً): لم تكن هناك ديمقراطية في عهد عبد الناصر بل دولة بوليسية. قد تكون الديمقراطية هي أكثر مثالب عبد الناصر وعهده، لكن في ذلك الوقت خصوصاً في السنوات الأولى للثورة ولحكمه، كانت الديمقراطية بالنسبة للغالبية من المصريين تمثل صورة فساد العهد السابق.

لقد كان المصريون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع وتتنافس الأحزاب في ما بينها وتشكل حكومات وتسقط أخرى ويظهر زعيم ويختفي آخر، لكن في النهاية كانت الأوضاع محكومة ضمن لعبة قوى بين النفوذ البريطاني عبر السفارة والقوات البريطانية المرابطة في قناة السويس وبين القصر الملكي.

لسنا هنا للمفاضلة بين العهد الملكي وعهد الجمهورية، ومن وجهة نظر تاريخية، ليس من الضروري أن يكون العهد الملكي كله سوءاً مطلقاً، لكن عجز الملك وضعفه وفساد الطبقة السياسية، جعل الآمال كلها تصل إلى طريق مسدود. وكانت الأوضاع الاجتماعية المتردية للغالبية من المصريين تمثل عنصراً ضاغطاً أسهم في النهاية في انطلاق ثورة 23 يوليو.

(رابعاً): أحدث عبد الناصر ما يمكن تسميته أكبر هندسة اجتماعية في مصر عبر مجانية التعليم وإتاحته لكل الطبقات والفئات الاجتماعية. قد يكون هذا أكبر إنجازاته وأكثرها قيمة.

لقد أسهم هذا في توسيع الفئة الوسطى بكل شرائحها في المجتمع المصري وأتاح لأبناء الطبقات الفقيرة تحسين أوضاعهم الاجتماعية عبر التعليم والوظائف التي تقلدوها. لا أظن أن عاقلاً هنا سيعيب هذا على الرجل رغم قوة الحس الطبقي لدى المصريين الذين لا تزال شريحة منهم تؤمن بهذه القيم الطبقية بما فيهم وزير عدل استنكر قبل سنوات أن يصبح ابن البواب قاضياً.

عندما نقارن تجربته ومرحلته ويومنا هذا، فلن يكون أمامنا إلا المأثرة الوحيدة الباقية لعبد الناصر حتى اليوم وهي «الفكرة»، التي مثلها بكل ما فيها: المقاومة، الاعتماد على الذات.