قبل الحديث عن الحوكمة المعرفية، التي عنونت بها هذه المقالة، ينبغي الإشارة إلى أن أي عملية تحول وانتقال، لا بد أن تكتنفها، في نقطة الصفر تحديداً، الكثير من الصعوبات والعشوائية، وهذا القول ينطبق على عملية التحول من الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية السابقة، إلى الاقتصاد الذي يقوم على المعرفة، وبين هذا التحول والتغيرات الاقتصادية والتفاعلات الجديدة، تعرضت مؤسسات كثيرة لقدر كبير من التذبذبات الرأسمالية، نتج عنه سوء الإدارة، وانتشار الفساد، نتيجة للممارسات الخاطئة، وبالتالي، حدوث انهيارات اقتصادية في كبريات منشآت الأعمال الدولية، وافتقاد الشفافية في كل ما يتصل بالقوائم المالية والإجراءات المحاسبية فيها.

ولأن ثمة من يرفض سداد فاتورة الفساد وسوء الإدارة وغياب ثقافة الاقتصاد المعرفي، ظهرت الحاجة الماسة إلى إعادة صياغة الاستراتيجيات الاقتصادية، في ظل هذا المفهوم الجديد للاقتصاد المعرفي، حتى يمكن توافر المعلومات عن المخاطر المتوقعة لهذا النهج الجديد، مع إحداث التكامل مع منهج تطبيق حوكمة المؤسسات، حتى يمكن تأسيس وصياغة إطار مؤسسي مناسب، يؤكد على وجود قواعد وهياكل ملزمة لكل الأطراف في العملية الاقتصادية.

لقد بدأت، مع عملية التحول، الكثير من بيوت الخبرة الإدارية الاستشارية، في إنتاج برامج لإدارة المعرفة وحوكمتها، وقامت بتطويرها داخل منشآت الأعمال، وقامت المنظمات المختلفة بتقديم التمويل اللازم للمشروعات المرتبطة بإدارة الاقتصاد المعرفي.

إزاء ذلك، ظهرت عدة تعريفات للحوكمة من قبل هذه البيوت الاستشارية المتخصصة، ومن ذلك، مؤسسة التمويل الدولية IFC، الذي يقول «هي النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها». وتعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، بأنها: «مجموعة من العلاقات في ما بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من المساهمين». بمعنى آخر، فإن الحوكمة تعني النظام، أي وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء، كما تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى البعيد، وتحديد المسؤول والمسؤولية.

إن مفهوم حوكمة المعرفة قد نال حظه من الاهتمام في قطاع الأعمال، وما زال، وتم تبنيه، لما يحمله في طياته من التغيرات والتطورات الحديثة، سواء على صعيد الملومات أو التكنولوجيا، وبالتالي، كان لا بد من إحداث التكامل بين المعرفة والاقتصاد، حتى يمكن أن يكون هناك اقتصاد معرفي يعتمد على تولية المعرفة الاقتصادية داخل المنشآت للمحافظة على الميزة التنافسية، واتباع أفضل الممارسات، فالعصر الذي نعيشه، يتسم بصفة أساسية شاملة لكل حقائق، وهي التغيير والتحول، ومن ثم، وجب طرح الأفكار والنظم والمداخل القديمة جانباً، واستيعاب حقائق المرحلة وإرهاصات المستقبل، حتى نجد لنا مكاناً في هذا العالم الجديد، أي إعادة صياغة الاستراتيجيات المعرفية والاقتصادية وفقاً للرؤى المستقبلية.

إن أهم العوامل الحاكمة التي يمكن أن تؤثر في التنافسية ومؤشرات الإنتاج، تتمثل في إدراك السمات المميزة لعصر المعلومات والمعرفة والاستجابة لها، وتحديات التقدم العلمي والتكنولوجيا وتوقعاته المستقبلية، والتعامل مع الثورة التكنولوجية وثورة المعلومات والمعرفة، والإمكانات المتاحة للعمل الإقليمي والتعاون الدولي.

ويمكن أن يكون دعم عمليات البحوث العلمية والتكنولوجية، بداية الطريق للتعامل مع هذه العوامل الحاكمة، من خلال تعبئة الموارد اللازمة، وخاصة التمويل والإدارة، وبذل الجهد حتى يمكن التعامل مع السمات المميزة لعصر الاقتصاد المعرفي لتحقيق القيمة المضافة في مكون السلع والخدمات، وزيادة الاستثمارات في النتاج الفكري، والمتمثل في البحوث والابتكارات في مختلف آليات الاقتصاد.

إن أهمية تأسيس حوكمة المؤسسات التي تعنى بالمفهوم الأوسع، كيفية وضع هيكل يسمح بقدر كبير من الحرية في ظل سلطة القانون، وتشمل التغييرات الأساسية، تبني المعايير الدولية للشفافية والوضوح والدقة في البيانات المالية، تتطلب وجود تشريعات وتعديلات أساسية، وتغيير استراتيجيات الإدارة لتأسيس إطار مؤسسي مناسب، ومن ذلك العدالة والشفافية في المعاملات، وحق المساءلة لمواجهة الفساد، ثم حماية المساهمين وتعظيم العائد، وتكوين هياكل إدارية يمكن معها محاسبة الإدارة أمام المساهمين، مع ضمان مراجعة الأداء المالي، وتكامل نظم المحاسبة والمراجعة، وتطوير الاستراتيجيات وزيادة كفاءة الأداء، والإشراف على المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة، في ضوء تشريعات الحوكمة.

وعليه، فإن العناصر الأساسية لدعم التطبيق السليم للحوكمة داخل المؤسسات، سيتم بوضوح الأهداف الاستراتيجية، وضمان كفاءة أعضاء مجلس الإدارة، وإدراكهم لدورهم في عملية الحوكمة، وتحديد المسؤوليات. فمما لا شك فيه، أن المعرفة تصبح دون جدوى اقتصادية بلا إطار استراتيجي بحق التوظيف واستغلال الفرص، ومن هنا، يأتي دور الابتكار كشكل رئيس للاستخدام الاستراتيجي للمعرفة، وذلك يتطلب الالتزام بتشريعات الحوكمة لتأمين وتحسين المناخ الاستثماري لكسب ثقة المستثمرين.

وتتمثل محاور الربط بين الاقتصاد المعرفي وحوكمة المؤسسات، في ضرورة وضع الاستراتيجيات برؤية مستقبلية، وتشجيع الابتكار لإحداث تنمية اقتصادية متوائمة، تتكيف مع التحولات، وإنتاج المعرفة، وإصلاح البناء المؤسسي، ومحاربة الأداء البيروقراطي لتحسين كفاءة الأداء، ووضع آليات لتنفيذ الحوكمة، حتى تصبح عناصرها مضادة للفساد، بما يتفق مع التطور السريع للمعرفة، ومراعاة أثر الثورة المعرفية في الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكذلك البيئة الداخلية والخارجية، لتحديد وضعية وتطورات السلوك الاستراتيجي لوحدة العمل، مع مراعاة النزاهة والعدالة، لتحقيق الميزة التنافسية، من خلال تحمل المسؤولية وقبول المحاسبة والشفافية.

وتحقيق الربط بين الاقتصاد المعرفي وحوكمة المؤسسات، يتم من خلال عدة آليات، منها آلية لجان المراجعة، وتفعيل دورها الكامل، ما يساعد على التوصيل الجيد، وتفادي الممارسات الخاطئة، حفاظاً على سلامة القوائم المالية ومصداقيتها، وتحقيق النتائج الاقتصادية المرجوة... وللحديث بقية.

* مستشارة اقتصاد معرفي