احتفى البحرينيون على مدى يومين، بشاب بحريني من المشاركين في مسابقة «الصوت ـ The Voice»، قدم خلالها أغنية من «فن الصوت» البحريني القديم، للفنان الراحل محمد بن فارس. لقد أرسل لي الكثير من الأصدقاء مقطعاً للمتسابق البحريني فيصل الأنصاري، وهو يؤدي صوت «دمعي جرى»، وبدا وكأن البحرينيين قد شدوا من آذانهم ليصغوا بشيء من الحبور، إلى ما سيذكرهم بشيء قد نسوه.

لقد تلقى هاتفي النقال، العديد من الرسائل من الأصدقاء والمعارف، تتضمن فيديو قصيراً لأداء هذا الشاب أمام لجنة التحكيم، التي استقبلت أداءه بشكل حسن. وعندما طالعت الوسم الذي تم تكريسه لفيصل الأنصاري على «تويتر»، أيقنت أن هذا الشاب بأدائه الجيد، حرك مشاعر البحرينيين بشكل كبير، وأثار فيهم مشاعر مختلطة، ما بين الفخر بإنجازه، والإعجاب بأدائه، وبالتأكيد، بالشجن الذي أثارته الأغنية في نفوسهم.

بيننا نحن، البحرينيين والكويتيين، على نحو خاص، والخليجيين بشكل عام، وبين «فن الصوت» عموماً، رباط مشحون بالعواطف والشجن الكبير. ولجيلي وما قبله، يمثل فن الصوت أحد العناصر الأساسية التي شكلت ذائقتنا الفنية، وصاغت وجداننا على نحو ما زال يحرك فينا شجناً تصفو معه ذاكرتنا لاستدعاء كل ما هو جميل في حياة ماضية، كلما سمعنا أغنية منه. لقد تربت أسماعنا منذ الصغر على أغنيات شهيرة من فن الصوت، مثل «دمعي جرى» و«جسد ناحل وقلب جريح» و«مر ظبي سباني» و«لحاك الله» و«يحي عمر قال» و«يا واحد الحسن» و«قل للمليحة في الخمار الأحمر».

قصدت استعراض أكبر عدد ممكن من أغنيات فن الصوت، لكي أعرض لأول حقيقة متعلقة بفن الصوت، وهي أن معظم أغنياته من الشعر العربي الكلاسيكي المكتوب بالفصحى. وإذا كانت الأغنية باللهجة العامية [غالباً عامية قريبة من الفصحى]، فإن قفلتها أو خاتمتها لا بد أن تكون بشعر فصيح، مثل الخاتمة الأكثر انتشاراً: «يا أم عمرو جزاك الله مكرمة» أو الخاتمة الأخرى الشهيرة أيضاً: «أَزرى عَلى الظَبي جيداً وَهوَ مُلتَفِتٌ /‏‏‏ وأخجَل الغُصنَ قَدّاً وَهوَ مُعتَدِلُ /‏‏‏ يَدنوا فَيَرحبُ بي سُمّ الخِياطِ كَما/‏‏‏ يَضيقُ بي حينَ يَنأى السَهلُ وَالجَبلُ».

ومن بين التغريدات الكثيرة التي كانت تحتفي بأداء فيصل الأنصاري أمام لجنة تحكيم المسابقة في ذلك الوسم المكرس له، كتبت سيدة بحرينية أن فيصل «جسّد الفن البحريني وبكل فخر [و] بكل انتماء وحب لمحمد بن فارس». وبمشاعر فخر وطني كتبت أخرى «لا لأنه بحريني وأنا بحرينية، لكن صوته رائع وموهوب ومعبر غير عن باقي الأصوات.. كأنه صوت قديم في إطار وأداء حديث»، وزادت بالقول «ولأنه بحريني، ولأني بحرينية، فأنا فخورة جداً به».

لكن أبلغ ما قيل فيه، هو ما كتبته سيدة بحرينية ثالثة، كتبت تقول «أبدعت يا ولد بلادي، وجملت إبداعك يوم أنك أحييت تراثنا الأصيل أحلى وأرقى الفنون.. فن الصوت البحريني».

سأضيف إلى هذه الملاحظة ملاحظة أخرى. لقد أدى فيصل صوت «دمعي جرى» بشكل مبتكر، حيث استهل الأغنية بعزف منفرد على الغيتار الكهربائي، مع موال من أحد أبيات الأغنية، وهو الجزء المبتكر في الأغنية، ثم دخل بمطلع الأغنية «دمعي جرى» بلحنها الأصلي وإيقاعها الأصلي «المروبع». وأبعد من الاستقبال الحسن من قبل لجنة التحكيم، فإن تفاعل الجمهور مع الأغنية، يقدم مؤشرا آخر مهماً. فإن أخذنا بعين الاعتبار أن الأغنية ظهرت للمرة الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، فإن أصالتها أتاحت لشباب مثل فيصل ورفاقه، أن يقدموها بشكل مبتكر قليلاً، وأن يتلقاها جمهور شاب أيضاً من الجنسين بتفاعل سلس للغاية. علام يدل هذا؟.

تفصل بين زمن الأغنية التي تم تلحينها على مقام «الحجاز»، مقام المواويل والطرب حسب الموسيقيين، وبين يومنا هذا أكثر من 80 عاماً. والأغنية التي أداها محمد بن فارس بفرقة صغيرة مكونة من عود وكمان وقانون وإيقاع، أصبح بالإمكان أداؤها بشكل آخر، وبنوع مختلف من الآلات، وتحدث نفس النوع من ردة الفعل. إنه درس الأصالة المتجدد: كلما كان العمل أصيلاً، امتلك حياة متجددة وممتدة.

المؤسف أن فنوناً في البحرين، وفي الخليج بشكل عام، تعرضت لإهمال كبير في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، لحساب ألوان هجينة من الموسيقى، لم تنتج سوى أغنيات مثل الموضة، تزدهر لفترة وتختفي. إن موجة الاحتفاء بالتراث والموروث، ظلت لفترة طويلة تتحاشى الدخول إلى ميدان الفنون الشعبية، خصوصاً التوثيق والدراسة اللازمين لإعادة التجديد، وإتاحتها للأجيال الشابة.

كنا في الثمانينيات نطلق الصيحات للحفاظ على موروثنا الفني، ونعيد التذكير بأن الفنون والثقافة التقليدية جزء أصيل من الهوية الوطنية، أما الآن، فأنا لست مضطراً لذلك إلا في حدود الدعوة لمزيد من الاهتمام والجدية في هذه المساعي، فالموسيقى والفنون ليست ترفاً بأي حال من الأحوال، وليست أمراً فائضاً يمكن الاستغناء عنه إلى حين.

لقد بدأ الاهتمام بالحفاظ على هذه الفنون وتطويرها في البحرين منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وما إن حلت الألفية الثالثة، إلا وتم تسجيل معظم كلاسيكيات فن الصوت بشكل مطور، وأداء فرقة البحرين للموسيقى التابعة لهيئة الثقافة والسياحة. وتم تشكيل فرقة من الصغار باسم «فرقة محمد بن فارس». الخلاصة هنا، هي أن هذا الشاب البحريني قدم الدليل العملي على أصالة فنوننا الشعبية والثراء الفني الكبير الذي نملكه.