عنوان هذه المقالة لا يخفي وعورة الخوض في تفاصيلها بالنسبة لمسؤولين في أعلى المستويات في الإدارة الأميركية لحساسية ما تمس من ثوابت ورؤى تتعلق بالبنى الفكرية والثقافية والسياسية التي تأصلت وتجذرت لدى الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط على مدى عشرات السنين.

فالمواقف الأميركية من أكراد العراق التي ساعدتهم في الحصول على مكاسب كبيرة تقرب من الاستقلال في إطار الدولة الفيدرالية، ومواقفها الحالية من أكراد سورية أكسب سياساتها قدرا من التهديد لأمن بعض دول المنطقة، خاصة تركيا التي تشهد علاقاتها مع الولايات المتحدة وضعا حرجا بسبب التعارض في المواقف من أكراد سورية حلفاء الولايات المتحدة في الحرب على داعش الذين تنظر لهم تركيا نظرة معادية وتصنفهم كحلفاء لحزب العمال الكردي التركي «بي كي كي» الذي تعتبره منظمة إرهابية، فالولايات المتحدة تلاحقها تهمة العمل على تقسيم بعض دول المنطقة.

ترجع جذور القضية الكردية إلى السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية إلا أنها اتخذت طابعا آخر بعد تقسيم أشلائها في نهاية الحرب العالمية الأولى حين وجد الأكراد أنفسهم مقسمين بين أربع دول، تركيا والعراق وإيران وسوريا، وأصبحت طموحاتهم القومية تهدد اللحمة الوطنية لهذه الدول، حيث لم تخل المراحل التي مرت بها قضيتهم من صراعات مسلحة بين الحين والآخر في العراق أولا ثم في إيران ثم تركيا وهي تندلع الآن في سوريا.

تعاطف الولايات المتحدة مع القضية الكردية ليس حديثا، هنري كيسنجر الواسع الاطلاع على البدايات الأولى لعلاقة واشنطن مع الملف الكردي حين أصبح مستشارا للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لشؤون الأمن القومي في يناير 1969 يلقي الضوء على ذلك في كتابه «سنوات التجديد» المنشور عام 2006 حيث وضع فصلا خاصا من عشرين صفحة تحت عنوان «مأساة الأكراد» لم يخفِ فيه تعاطف الولايات المتحدة مع القضية الكردية التي وصفها بضحية التاريخ والجغرافية.

ويعزي موقف بلاده من القضية إلى دوافع أيديولوجية واستراتيجية بالقول «إن التراث الولسوني، نسبة إلى الرئيس الأميركي الثامن والعشرين ودرو ولسون 1913 - 1921 كان يدفعنا باتجاه دعم وتأييد حق تقرير المصير للشعب الكردي» وهي إشارة إلى المادة الثانية عشرة من المبادئ الأربعة عشر التي أعلن عنها الرئيس ولسون عام 1918.

كيسنجر يُرجع علاقة بلاده الإيجابية بالملف الكردي في العراق إلى عام 1972 في اللقاء الذي جرى بين شاه إيران والرئيس الأميركي نيكسون الذي زار طهران قادما من موسكو بعد لقائه الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف.

في هذا اللقاء جرى التنسيق بين طهران وواشنطن على دعم الحركة الكردية المسلحة بقيادة مصطفى البارزاني. إلا أنه لم يكن بقدرة الولايات المتحدة آنذاك الالتزام المفتوح الواسع بالقضية الكردية لأن ذلك يتطلب فتح جبهة في جبال وعرة وقاحلة قرب الحدود السوفييتية في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة لا تزال متورطة بالحرب في الهند الصينية، هذا إضافة إلى وجود انقسام وطني آنذاك بشأن هذه القضية حسب ما يذكر كيسنجر.

أما الآن وبعد مضي ما يقرب من نصف قرن طرأ تغيير كبير على جميع الأصعدة فقد ساعدت مسارات الأحداث الإقليمية والدولية في خلق ظروف وتوازنات جديدة لم تعد فيها المؤسسات صاحبة القرار في الإدارة الأميركية منقسمة حيال الموقف من القضية الكردية، فسياسة إدارة الرئيس ترامب امتداد لسياسة سلفه أوباما فيما يخص هذا الشأن.

من جانب آخر أصبح للولايات المتحدة حضور ميداني قوي في العراق منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 حين فرضت لأكراد العراق منطقة آمنة واستقطعت لهم نسبة من عائدات النفط عندما كان يدار من قبل الأمم المتحدة في برنامج النفط مقابل الغذاء، وتعزز هذا الحضور من خلال الحرب على تنظيم داعش التي أتاحت للولايات المتحدة حضوراً عسكرياً فاعلاً في شرق سوريا وتوفير حماية لحلفائها الأكراد القوة الرئيسية في سوريا للحرب على تنظيم داعش.

وتأتي رسالة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون إلى رئيس إقليم كردستان في الثالث والعشرين من سبتمبر المنصرم، قبل يومين من إجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم بمثابة تأكيد على الالتزام بالدوافع التي أشار إليها كيسنجر وعلى اعتراف الولايات المتحدة بالظلم الذي يعاني منه الأكراد منذ العام 1921 في إشارة إلى العام الذي تأسست به الدولة في العراق حيث ألحقت بها كردستان الجنوبية موطن أكراد العراق.

* كاتب عراقي