ما زلت أتذكر تلك الأيام التي كان السائقون يتبادلون التحيات والشكر والابتسام، وهم يترفقون ببعضهم في الشوارع والطرقات، يفسحون المسارات لبعضهم، ويومئون لبعضهم بالشكر بأيديهم، أو برنة خفيفة من بوق السيارة. يعطون أولوية العبور لبعضهم، لا يشغلون الأضواء العالية غالباً ويطفئونها، حالما يرون سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس، مراعاة للسائقين الآخرين. لا يقودون بسرعة عالية وسط المناطق السكنية .

وفي الشوارع، إلا لظرف طارئ، إن كانوا متوجهين إلى مستشفى أو ما شابه. الآن، وبمقياس زمني فحسب، سيرى الجميع أن ذلك التهذيب كان جزءاً من منظومة أخلاق، لحقها التدهور لصالح قيم من نوع آخر، غارقة كثيراً في النفعية، حتى وإن كانت جزءاً من أيدلوجية تتغني بالقيم الكبرى، سواء أكانت قيماً دينية أو إنسانية عامة. مثال التهذيب في الطريق هذا.

هو تمرين ذهني، وجدت أنه قد يكون مناسباً للإحاطة بالتغيير الذي طرأ "تعبير ملطف للمعنى الأشد وطأة لمفردة: التردي"، على منظومة الأخلاق، لا على مستوى الحياة اليومية فحسب، بل على مستوى أكبر، امتد للخطاب السياسي الرائج في أيامنا هذه.

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، انجذبنا نحو السياسة بدافع وحيد، هو حس العدالة الاجتماعية لا أكثر. حتى الانجذاب نحو أكثر الطروحات راديكالية، لم يكن أكثر من تعبير عن كمية الغضب التي تختزنها نفوسنا المثقلة بهموم صراع وجودي، مثل الصراع العربي/الصهيوني، وانعدام المساواة والفقر، وغيرها مما يثير الغضب.

على هذا، تم وصف "تحوير دبلوماسي لمفردتي: هجاء وقدح"، جيلنا دوماً، وحتى اليوم، بأنه «مثالي» أو متعلق بـ «المثاليات». مثاليتنا هذه قادتنا هذه الأيام، لأن نرى في ما يجري في «الغوطة الشرقية» للمدنيين، أمراً مستهجناً، ويستحق أن يرتفع الصوت من أجله.

لكن الحس الإنساني تعرض لإعادة تعريف في السنوات الأخيرة، ولم يعد له تعريف واحد، بل تعريفات مختلفة، وقابلة للتغيير حسب النزاع المعني، وحسب البلد المعني، وحسب الأطراف المتورطة فيه، أي أن المفهوم والتعريف الواضح والمحدد للحس الإنساني، أصبح أمراً استنسابياً.

قبل الغوطة الشرقية، دفعتنا مثاليتنا هذه لأن نكتب عن مأساة المدنيين الجوعى في «مضايا»، وهي نفس المثالية التي تدفعنا للتعاطف مع أي ضحية إنسانية في أي مكان، وفي أي بلد، وأياً كانت الأطراف المتورطة في نزاع يحول المدنيين إلى ضحايا تدفع أكلاف هذا النزاع.

لكن في الأسابيع القليلة الماضية، قرأت العديد من المقالات التي تهون من شأن ما يثار حول الضحايا المدنيين في «الغوطة الشرقية»، تماماً بنفس منوال ما كان يتم حيال مجاعة «مضايا» مثلاً، أو عند الحديث عن ضحايا البراميل المتفجرة. تصدر هذه الآراء من كتاب يقفون في صف النظام، لكن هذا لا يمثل مشكلة بالنسبة لي على الأقل، فهم أحرار في اتخاذ مواقفهم السياسية.

لكن المشكلة، هي التهوين من معاناة المدنيين. تهوين يجعلنا نعيد تصفح كتاب مدرسي يقول إن مجرد وجود نزاع مسلح، يعني بالضرورة وجود ضحايا مدنيين. وإن التعاطف مع الضحايا المدنيين، لا يعني تعبيراً عن موقف سياسي، على طريقة الثنائيات الشهيرة، التي يشتهر بها العرب «مع أو ضد».

لقد تكرر الأمر في أكثر من بلد، ومع أكثر من مأساة، وبات يتعين علينا قبل الكتابة عن مآسٍ مماثلة، أن نكتب ذلك النوع من مقدمات إثبات حسن النية، على طريقة «لست مع المعارضة لكني..»، أو «لست مع النظام لكن إذا..»، أو «لست طائفياً لكن..». وإذا وضعنا تفاصيل الجدل السياسي والمماحكات حول أوضاع مشابهة في هذا البلد أو ذاك،.

فإن ما يقلقني في الموضوع كله، هو أن الحس الإنساني لم يعد يملك مفهوماً موحداً، بل مفهوم متغير واستنسابي وقابل للتفصيل، إلى الحد الذي يمكن أن يصبح فيه المرء إنسانياً في هذا النزاع، وفاشياً في نزاع آخر، لأن ضحايا لا يعنون له شيئاً. لقد أصبحت هذه الاستنسابية في النظر للضحايا في أي مكان، أمراً تشترك فيه الحكومات والمعارضة.

ففي مقابل هذا التهوين، يمارس خصوم النظام، تهوينهم الخاص، طالما تعلق الأمر بفظاعات يرتكبها أفراد تنظيمات جهادية أو غيرها، سواء بحق أسرى الجيش "باعتبارهم نصيريين كفرة أو أنصاراً للنظام النصيري مثلاً"، أو أهالي البلدات التي يسيطرون عليها، أو الخصوم من المقاتلين الآخرين، مثلما جرى في بلدة «عفرين» الكردية، عندما تم التمثيل بجثة مقاتلة كردية من قبل أفراد ينتمون إلى إحدى كتائب الجيش الحر، التي تقاتل إلى جانب القوات التركية.

التمثيل بجثة المقاتلة الكردية، لا يمت لأي أخلاق بصلة، وهو فعل من نفس طينة ما يجري في الغوطة الشرقية، وقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة، والحصار والتجويع. لم يرتفع صوت واحد من المعارضين، يستنكر تلك الفعلة، ولم يأخذ الأمر صدى مثلما يجري حيال مأساة أهل الغوطة الشرقية مثلاً أو مآسٍ مماثلة. لكن الاستقصاء الدقيق لوقائع الحرب في سوريا، يفصح عن ممارسات متشابهة، أصبحت شائعة لدى جميع الأطراف.

ففي يوميات النزاع السوري هذا، قرأنا العديد من القصص حول ممارسات شبيهة، قام بها مقاتلون أكراد حيال سكان عرب، عادوا إلى قراهم الواقعة تحت سيطرة البيشمركة. الخلاصة: عندما تتردى الأخلاق، تتردى السياسة، حينها يزدهر مثل هذا المنطق، الذي يجعل البعض إنسانياً حيال مجزرة ما، وفاشياً حيال مجزرة أخرى، لمجرد أن ضحاياها لا يعنون له شيئاً، ليسوا من طائفته ولا من عرقه، أو من حزبه أو لونه.