ما حدث في الولايات المتّحدة الأميركية مؤخّراً، من مسيراتٍ طلابية في معظم المدن الأميركية، لم يكن أمراً يُستهان به. فصحيحٌ أنّ محور هذه المسيرات، كان موضوع العنف المسلّح، وفوضى اقتناء الأسلحة واستخدامها في المدارس والجامعات الأميركية، لكن أيضاً رمزت هذه الحركة الطلابية، إلى حالة من التذمّر الشعبي الأميركي الكبير، ضدّ إدارة ترامب، ومن تقاعس أعضاء الكونغرس وخضوعهم لتأثيرات «لوبي صانعي وتجّار الأسلحة».
ومن شاركوا في هذه المسيرات الطلابية، التي ضمّت مئات الألوف من الشباب الأميركي في عدّة ولايات، هم بمعظمهم ممن سيحقّ لهم التصويت للمرّة الأولى في الانتخابات، بحكم أنّ القانون الأميركي، يعطي حقّ التصويت لكلّ من بلغ سنّ الثامنة عشرة.
وهؤلاء سيكون لهم قدرة على التأثير الفعّال بالانتخابات القادمة في شهر نوفمبر، تماماً كما حدث في عام 2008، حينما استقطبت حملة باراك أوباما، قطاعات كبيرة من الشباب الأميركيين، ما ساعد على فوز أوباما آنذاك.
وما يعنيه تحرّك الشباب الأميركي أيضاً في هذه المرحلة، هو التصادم مع أجندة ترامب التي تقف إلى جانب «لوبي الأسلحة»، والتي هي مدعومةٌ أيضاً من قوى عنصرية في المجتمع الأميركي، بينما مسيرات الطلبة كانت تعبيراً عن رفض العنصرية والتمييز على أساس اللون أو الدين أو الأصول الإثنية.
فأجندة القوى الداعمة لترامب، تخسر كثيراً الآن وسط الجيل الأميركي الجديد، تماماً كما حصل ويحصل مع المهاجرين الجدد، وخاصّةً مع القادمين من أميركا اللاتينية، وكما هو سوء أمر أجندة ترامب، وسط غالبية النساء الأميركيات. وهذه القوى الثلاث: الشباب والمهاجرون الجدد والنساء، هي القوى التي لعبت دوراً هامّاً في سقوط الحزب الجمهوري في انتخابات الـ 2008.
أيضاً، فشلت إدارة ترامب في تعديل قانون الرعاية الصحية الذي أقرّته إدارة أوباما، وفشلت حتّى الآن في وضع قانونٍ للهجرة، وفي بتِّ موضوع المهاجرين غير الشرعيين المولودين في أميركا، لكن إدارة ترامب نجحت في وضع قانونٍ جديد للضرائب، يصفه الكثير من المعلّقين بأنّه جاء لصالح الشركات الكبرى والأثرياء، وليس لصالح الطبقة الوسطى والفقراء.
وحقّقت إدارة ترامب نصف نجاح في إقرار ميزانية العام القادم، والتي تميّزت بأنّ أكثر من نصفها كان مخصّص لوزارة الدفاع، حيث بلغت حصّة البنتاغون حوالي 700 مليار دولار، رغم العجز القائم في الميزانية الأميركية، وبعد إلغاء أو تخفيض مبالغ كانت تُخصّص لصالح مؤسّساتٍ اجتماعية وتربوية.
وهذا الفشل أو التعثّر لأجندة ترامب على المستوى الداخلي، ترافقه التحقيقات بشأن دور روسيا في الانتخابات الماضية، وما جرى كشفه أيضاً عن فضائح علاقاتٍ جنسية قام بها ترامب قبل وصوله للبيت الأبيض، وهما قضيتان تشكّلان عنصر ضغطٍ يومي على الرئيس ترامب شخصياً، وعلى إدارته، ولهما تبعات قانونية وسياسية في المستقبل القريب.
ولعلّ ما سبق ذكره، يُعزّز المخاوف من أن يُقدِم ترامب على افتعال أزماتٍ دولية، أو ربّما تورّط عسكري كبير في حروبٍ جديدة، لتغطية ما يحدث من تعثّر وفشل داخلي، ولكي تستعيد إدارته بعضاً من الثقة والتأييد وسط الرأي العام الأميركي.
وهذا أسلوبٌ مارسته إدارات أميركية مختلفة، حينما كانت تتعثّر أجنداتها الدخلية، أو حينما تكون في مأزقٍ سياسيٍّ شديد، باعتبار أنّ الأميركيين يقفون مع رئيسهم، ظالماً أو مظلوماً، حينما تخوض واشنطن حروباً خارجية!
فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية عام 2016، لم يكن العامل الأساس فيه شخصه، ولا طبعاً مؤهّلاته أو خبراته المعدومة في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس، هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي، بين المتمسّكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي والعنصري أحياناً، وبين أميركا الحديثة «التقدّمية»، التي أصبح أكثر من ثلث عدد سكّانها من المهاجرين من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، والتي فيها التسامح الديني والثقافي والاجتماعي، والتي أنهت العبودية، وأقرّت بالمساواة بين الأميركيين، بغضّ النظر عن اللون والدين والعرق والجنس، والتي أوصلت باراك حسين أوباما، ابن المهاجر المسلم الأفريقي إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة.
وقد نجحت قوى «أميركا القديمة» في إيصال ترامب إلى «البيت الأبيض»، حتّى على حساب مرشّحين آخرين من «الحزب الجمهوري»، بسبب قيام حملته الانتخابية على مفاهيم ومعتقدات هذه القوى الأميركية «الرجعية».
إنّ العالم اليوم، ليس كما كان في حقبة الحرب الباردة بين معسكر شيوعي وآخر رأسمالي. فعالم اليوم، يقوم على المنافسة بين القوى الكبرى التي تختلف أو تتّفق تبعاً لمصالح اقتصادية أولاً، وبما يضمن تفوّق هذا الطرف أو ذاك.
فليست مشكلة موسكو فقط مع إدارة ترامب الآن، أو مع سلفه أوباما، بل إنّ جذور المشاكل، تعود لفترة إدارة بوش الابن، حيث وقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في عام 2007، محتجّاً على السياسة الأميركية التي كانت سائدة آنذاك. فأولويات روسيا كانت هي أمنها الداخلي، وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّ محاولة لعزلها، أو لتطويقها سياسياً وأمنياً.
وموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي، وفي أفغانستان وفي العراق، وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف «الناتو» في أوروبا الشرقية، ومع محاولة نشر منظومة الدرع الصاروخية. وهذه كانت سياسة الدولة الأميركية، ولم تكن فقط سياسة حاكمٍ في «البيت الأبيض»!
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن