في إحدى الجلسات العامة في ثالث أيام منتدى «الفكر العربي 16»، (دبي من 10 إلى 12 أبريل)، دار الحديث عن تشجيع البحث العلمي في الدول العربية عندما روى أحد المتحدثين قصة ذات دلالة بليغة.

لقد روى المتحدث قصة حدثت قبل سنوات عند محاولة تأسيس مراكز للبحث العلمي بمشاركة ودعم القطاع الخاص. فعندما عرض المعنيون بالمبادرة الأمر على مستثمرين من القطاع الخاص علق بعضهم بالقول: «كل ما نحتاجه نستورده من الخارج، فماذا يمكن أن تنفعنا مراكز بحث علمي محلية؟».

على نحو ما، فإن ذلك المستثمر قد يكون على حق طالما انه يستورد كل ما يحتاجه. لكن ذلك الجواب نسبي أيضا ويفتح الباب أمام سؤال آخر أهم: «ألا يوجد مستثمرون يريدون أن يصنعوا بدلاً من أن يستوردوا؟». هنا سنضع أيدينا على مشكلة قديمة/‏متجددة. وثمة سؤال آخر: ألا يمكن أن يقود البحث العلمي من يستورد السلع من الخارج إلى أن يتحول إلى منتج لهذه السلع التي يستوردها؟

الجواب على كلا السؤالين هو نعم، لكن الأمر لا علاقة له بالأمنيات ولا بالافتراضات النظرية هذه، بل بـ«الإرادة».

حينما يتم الحديث عن نهضة اليابان الصناعية واقتصادها، لا يتم الإشارة إلى الدافع الأهم في هذه النهضة، كذلك الحال بالنسبة لكوريا الجنوبية والهند على سبيل المثال. القاسم المشترك في تجارب اليابان وكوريا الجنوبية والهند هو أن «الإرادة» التي كانت الدافع الأكبر نحو التحول إلى بناء اقتصاد إنتاجي عبر الصناعة.

وسواء تعلق الأمر بالإلكترونيات المبهرة من اليابان وكوريا الجنوبية أو التصنيع الثقيل أو غزو الفضاء، لا يمكن تحقيق أي نجاح في هذا الصدد دون البحث العلمي. لقد بلغ إنفاق هذه الدول الثلاث على البحث العلمي في عام 2014 مثلاً 170 مليار دولار لليابان، فيما أنفقت كوريا الجنوبية 91 مليار دولار والهند 66 مليار دولار.

السؤال الأهم: من يتحمل كلفة البحث العلمي؟ على من تقع مسؤولية إنشاء البنى التحتية للبحث العلمي؟ على من تقع مسؤولية تمويل الأبحاث وتفريغ العلماء والمختصين؟

إن كان الجواب هو الدولة فهذا صحيح، فمهمة الدولة هي إنشاء البنية التحتية للبحث العلمي سواء في الجامعات أو خارجها وفي مختلف القطاعات. لكن القطاع الخاص عليه مسؤولية أيضاً في دعم البحث العلمي لأنه سيكون من أوائل المستفيدين من ثمار البحث العلمي.

لقد شغلنا بالجدل دوماً حول أدوار القطاع الخاص ومسؤوليته سواء ما يتعلق بالتوطين وتشغيل اليد العاملة المحلية أو المسؤولية الاجتماعية بمفهومها الأشمل، لكنني اعتقد انه بعد كل التجارب التي مرت على البلدان العربية منذ ثلاثينيات القرن العشرين الماضي على الأقل، يتعين أن نعيد تعريف المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص.

لطالما تم اختزال المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص في أمرين: الأول هو التوطين أي تشغيل اليد العاملة المحلية وهذه مشكلة ملحة في دول الخليج مثلا التي تعاني من فائض في اليد العاملة الأجنبية المطلوبة لرخص تكلفتها لا لمهارتها بالضرورة. الثاني هو العمل الخيري.

أعتقد أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص يجب أن يمتد ليشمل المساهمة الحقيقية في بناء الاقتصاد الوطني عبر التخطيط المشترك مع الحكومات والمساهمة في تمويل البحث العلمي. وإذا تذكرنا أن الحكومات باتت منذ سنوات ترى في القطاع الخاص شريكاً في التنمية، فإن الشراكة تقوم أساساً على المسؤولية المتبادلة.

على هذا النحو، إذا اعتبرنا ذلك الجواب الآنف الذكر نهائياً (القطاع الخاص يستورد كل ما يحتاجه من الخارج فلا داع للاستثمار في مراكز البحث العلمي)، فإن هذا بحد ذاته مشكلة، أي أن يكون لدينا قطاع خاص يستورد فقط ولا ينتج ولا يصنع. هنا سيكون السؤال: إلى متى سنستمر في الاستيراد دون التصنيع؟

إنه جدل قديم ساد في معظم البلدان العربية، ولعل التجربة المصرية أفضل مثال. فالاتجاه نحو التصنيع بدأ في مصر منذ ثلاثينيات القرن العشرين ضمن مساع للاعتماد على الذات.

واستمر هذا الاتجاه حتى ثورة يوليو 1952، التي واصلت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر نفس الاتجاه لكن مع تغيير الأدوار حيث تحملت الدولة هذا الدور خصوصاً بعد حركة التأميم التي طالت المستثمرين الأجانب والمصريين. وفي عهد الرئيس السادات بعد إلغاء قرارات التأميم والحراسات القضائية تخلت الدولة رسمياً عن هذا الاتجاه عبر بيع كل مصانع القطاع العام للقطاع الخاص.

وسواء تعلق الأمر بمصانع السيارات أو بطاريات السيارات والسلع الصناعية أو السلع الحياتية الأخرى، فإن هذا التخلي كان مثل الوقوف في منتصف الطريق والتراجع عن إكمال مسيرة التصنيع والإنتاج.

لقد كلف هذا التراجع الاقتصاد المصري الكثير مع بدء اعتماده المتزايد على الاستهلاك عبر الاستيراد من الخارج. حسب اقتصاديين مصريين كثر، فإن أزمات الاقتصاد المصري المستمرة حتى اليوم بدأت من تلك الفترة.

النتيجة واضحة، فالمقارنات مع دول أخرى مثل كوريا الجنوبية والهند مثلا التي اختطت نفس الطريق الذي اختطته مصر منذ الخمسينات، كافية لكي تشرح الأمر كله؛ فالكوريون الجنوبيون والهنود لم يتوقفوا في منتصف الطريق، بل أكملوا الطريق حتى بدأت الثمار تظهر جلية مع نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي.