على مدى أيام، كان هاتفي النقال يستلم نوعين من الرسائل عن العراق، رجال دين شيعة يتحدثون من منابر عن فساد الطبقة السياسية في العراق ومدى البؤس الذي يحيا فيه العراقيون منذ العام 2003 وحتى اليوم بسبب فساد هذه الطبقة. النوع الثاني من الرسائل هو لأطفال يبحثون في المزابل عما يمكن بيعه لتحصيل قوت يومهم.

هل هذا جديد؟ لا ليس جديدا سوى في مشايخ جدد ينضمون لقائمة الناقمين وأفلام جديدة لأطفال جدد وإعلامي جديد يرصدهم، أي لقد أصبح هذا «ظاهرة». لا يتطلب الأمر سوى زيارة موقع يوتيوب ومشاهدة مئات من الفيديوهات التي تتضمن مواد من كلا النوعين.

في أحدث تلك المواد التي تصور أطفالاً يبحثون في المزابل، تبدو المفارقة المأساوية شاخصة: طفل يتحدث بمعية أطفال آخرين للكاميرا، وبكلماته نستعيد تلك الشخصية العراقية الواثقة التي نعرفها عندما يتحدث دونما لعثمة وبسلاسة في التعبير. لكن الموضوع هنا جارح ومؤلم إلى حدود تفوق الوصف عندما يختنق الطفل بعبرة ويتهدج صوته وهو يعلن باكياً شوقه لمدرسته التي انقطع عنها بسب وطـأة الحاجة والبؤس.

بأي منطق يمكن التعامل مع هذا التردي الذي أصاب العراق؟ منطق التهوين عبر رد هذا التردي إلى مشكلات وتحديات خارجية وداخلية مثل «الإرهاب» مثلا منذ تجلياته الأولى في تنظيم «القاعدة» وتاليا «داعش»؟ لكن لا يبدو هذا متسقا ولا منطقياً لأن قانون النسبة والتناسب لا يجعل هذا المنطق إلا منطقا ذرائعيا. لنجرب المنطق الذي لا يكذب ولا يجامل، منطق الأرقام.

حتى هذا العام 2018، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للعراق 171.49 مليار دولار حتى الربع الأول وسيبقى في حدود 163 مليار دولار طيلة العام وحتى العام 2020 ((tradingeconomics.com/‏iraq/‏forecast. أما نصيب الفرد من هذا الناتج الإجمالي فهو 5695 دولاراً حالياً، أي خمسة آلاف وستمائة وخمسة وتسعون ألف دولار وسيبقى في حدود 4.512 دولار (أربعة آلاف وخمسمائة واثني عشر دولاراً) في العام 2020.

عندما توضع أفلام بؤس الأطفال تلك مع هذه الأرقام، سيبدو الأمر نكتة سمجة في مسرحية هزلية من النوع الرخيص. لسنا بحاجة لأن نتساءل عن مصير الناتج المحلي الإجمالي ولا عن الأسباب التي تدفع الأطفال إلى ترك مدارسهم والبحث في المزابل عن لقمة عيش عائلاتهم. يكفينا فقط رقم آخر هو ترتيب العراق في مؤشر الفساد العالمي: المرتبة 169 في مؤشر منظمة الشفافية الدولية (2017) الذي يضم 180 بلداً.

ليس هذا بجديد أيضاً، وعلى الرغم من أن الاحتجاج العلني ضد فساد الطبقة السياسية في العراق ليس أمرا مستجداً بل بدأ منذ الأيام الأولى للاحتلال الأميركي والحكومات المحلية التي تلته، فإن ما يثير الدهشة هو أن أصوات الاحتجاج تعلو كلما اقتربت الانتخابات، لكن الناخبون يعودون وينتخبون وجوه الطبقة السياسية الفاسدة نفسها، فما السر في ذلك؟ وهل يمكن اعتبار الناخبين شركاء أيضا في ترسيخ سطوة هذه الطبقة السياسية الفاسدة وتالياً إعادة إنتاج الفساد في صور جديدة؟

ما هو السر الذي يجعل فساد الطبقة السياسية إحدى حقائق الحياة اليومية في العراق وعلى لسان كل عراقي وعراقية، ثم عندما يحين أوان الانتخابات وتتاح الفرصة لاستبدال الفاسدين عبر إسقاطهم في الانتخابات، يعود «الناخبون/‏ المواطنون» إلى انتخاب وجوه الفساد نفسها؟

لنحاول الدخول في عصف ذهني صغير لمعرفة أسباب هذه المعضلة: الرشى شراء الأصوات والولاءات؟ التحريض الطائفي والتلاعب بعواطف الناس؟ التخويف وشيء من الإكراه عبر الميليشيات والجماعات والمؤسسات الطائفية؟ التدخلات الخارجية؟ عزوف المواطنين عن الانتخابات نتيجة اليأس من القدرة على تغيير الأوضاع؟

لقد ذهب العراقيون منذ العام 2004 وحتى العام 2014 إلى انتخابات متعددة وصوتوا أكثر من مرة في انتخابات برلمانية، فهل من المعقول أن كل تلك الأسباب المشار إليها ستبقى فاعلة وتدفع العراقيين لإعادة انتخاب رموز الفساد كل مرة رغم كل الحقائق الشاخصة عن فساد الطبقة السياسية وتردي أحوال العراقيين؟

يقترح هذا أن من الممكن أن تكون هناك دوافع قاهرة لمثل هذا السلوك المحير، فهل يمكن أن تقدم واقعة الاستقالة الجماعية لأعضاء مجلس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في مارس 2014 احتجاجا على التدخل السياسي في أعمالها، تفسيرا أو جزءا من التفسير لهذا الدافع القاهر المفترض؟

لقد قدم أعضاء المفوضية استقالتهم الجماعية على خلفية مزاعم بأن الحكومة تستخدم بنداً قانونياً مثيراً للجدل لمنع مناوئين لها من الترشح في الانتخابات على أساس أنهم لا يحظون بـــ«سمعة جيدة». إذا كان هذا التدخل المفترض من الحكومة أحد الأسباب لفرضية الدافع القاهرة، فهل يمكن الإشارة إلى أسباب أخرى أيضا في هذا السياق؟ دور الميليشيات أو تنظيمات خفية؟

على الأرجح، فإن دوافع الناخبين/‏ المواطنين لإعادة انتخاب رموز الفساد هي خليط من تلك الأسباب وأسباب أخرى. وقد يجتهد البعض منا في إعطاء أولوية لسبب دون غيره مثل التحريض الطائفي والتدخل الخارجي وتردي قيم المواطنة لحساب الاستتباع ونفوذ الميليشيات وغياب طبقة سياسية من بناة الأمم، لكن المؤكد أن مناقشة أوضاع العراق هي مناقشة نموذجية تصلح لتأليف كتاب بعنوان «كل ما تود أن تعرفه عن الطرق والسياسات المثلى للتحول إلى دولة فاشلة».