منذ سقطت البرتقالة في ذاك اليوم الأسود، ظلت قضيتهم تتدحرج، من مخيم إلى مخيم إلى مخيم، من منفى إلى منفى، ومن تيه إلى تيه. وبين مذبحة ومذبحة ثمة مذبحة.
وبين خيمة وخيمة ذئاب خوف وجوع تنهش لحم الأطفال وتعوي في المدى القادم من المستقبل المجهول. لكنهم لم يكفوا عن الأمل والعمل.
حول الخيمة يزرعون غيمة. يشربون منها ويسقون شتلات زعتر يتباركون بها ويطعمون أطفالهم، وميرمية فيها دواء لكل داء، ونكهة تجعل الشاي بطعم البلد التي «ضاعت» منهم.
كيف ضاعت البلاد يا أبي؟
كنت اسأل والدي ابن القرية الملتصقة بيافا، الواقعة على تلة بين نهر العوجا وبين البحر الأبيض المتوسط، ولد هناك حيث ولد جده وجد جده، وهناك عاش صباه. نهاراً، فلاح يزرع البرتقال والليمون في البيارة، وفي المساء إلى يافا الجمال والحضارة والموسيقى والفن والسينما. يافا التي كانت تصدر البرتقال إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا في صناديق خشبية.
تدمع عينا الرجل المحزون كما ماء مالح يسيل من جرة مكسورة، يلملم دموعه بكفه الخشنة ويقول: والله يابا ما كنا نعرف هيك راح يصير فينا. أجا المختار وكبارية القرية وحكولنا إنه لجنة الإنقاذ اجتمعت معهم وقالوا لهم ما تخافوا كلها كم يوم وراح ترجعوا لبيوتكم!
تكمل أمي حكاية الكم يوم التي صارت سبعين سنة (25.550 ) يوماً: جاء أبوك وجدك وأعمامك وقالوا إن لجنة «الإنقاذ» طلبوا أن نسرّع في الرحيل لأن اليهود قتلوا الرجال وبقروا بطون النساء الحوامل في قبية ودير ياسين. وضعت قمباز العرس تبع أبوك وفستان عرسي وبعض الملابس في «صُرّة» كبيرة حملتها على رأسي وحملت أختك فاطمة الرضيعة بين ذراعي، حمل أبوك أشياء أخرى وهربنا مع ستك وسيدك وأعمامك وعماتك فيما كان اليهود يطلقون الرصاص فوق رؤوسنا.
«هربوا» مشياً من رصاص اليهود وغدر لجنة الإنقاذ. لم يكونوا يعرفون إلى أين.
والله يمّا كنا كل ما نمر بكرم زيتون نستريح وننام ليلة ليلتين ثلاث. يتجمع أهل القرية ثم يتفرقوا مجموعات، بعضها إلى طولكرم القريبة من الحدود، البعض إلى جنين أو نابلس حيث ولدتك هناك في مخيم عسكر بعد سنتين من خروجنا من قريتنا «الجماسين». أما أخوالي دار السماك - الذين استشهد أحد أحفادهم الاثنين الماضي برصاص الاحتلال في مواجهات مسيرة العودة - وعائلات أخرى فواصلوا الهروب إلى غزة.
في كتابه «مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين» الصادر عن منشورات جامعة كامبريدج عرض البروفيسور بيني موريس أبرز المؤرخين الجدد الإسرائيليين فكرة الترانسفير - التهجير القسري - في الأيديولوجية الصهيونية، والتي بدأت خلال الربع الأخير من العام 1947 وحتى بعد إنشاء الكيان الصهيوني وأدت النزوح الجماعي لنحو 700 ألف فلسطيني من ديارهم.
وأورد أسماء قرى فلسطينية مسحت عن الأرض وبنيت مكانها مستعمرات إسرائيلية. ويقول في الفصل الثامن من الكتاب: لقد ارتكب الجنود الإسرائيليون مذابح بحق النساء والرجال والأطفال في أغلب المدن والقرى التي هاجموها ضمن عمليتي «يو آف وأحيرام». وهرب جراء تلك العمليات الوحشية عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
لقد استطاع اتباع الحركة الصهيونية أن يقتلعوا الفلسطينيين من أرضهم لكن ما شهده يوم ذكرى النكبة يؤكد أنهم لم يستطيعوا أن يقتلعوهم من جذورهم. فكانت فلسطين حاضرة في الأجيال التي ولدت خارج رحم فلسطين. جيلاً بعد جيل، حتى الأطفال الذين يلثغون بحرف السين حين يلفظ كلمة فلسطين.
كان مشهداً رائعاً في مختلف شوارع فلسطين، باصات يحمل كل منها لافتة باسم المدينة والقرية التي هُجّر أهلها منها تعبيراً عن الإصرار على العودة. وكان رائعاً الزحف الذي قام به فلسطينيون من حيفا ويافا وعكا والرملة ومعظم فلسطين الأولى المحتلة في النكبة نحو القدس التي كانت تشهد تنفيذ وعد (بلفور الثاني) الرئيس الأميركي دونالد ترامب - بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة.
مشهدان متناقضان، أحدهما صاحب حق متجذر لا يسقط بالتقادم، يدافع عن حقه بصدر عار لكن بإيمان فولاذي لا يلين. وآخر باطل يسعى لفرض أمر وقع زوراً وبهتاناً على أرض وشعب فلسطين، لكنه واقع هش حتى لو كان مغطى بقشرة من الكذب والحديد.
أما المجزرة التي ارتكبها جيش نتانياهو ضد أهل غزة العُزّل على السياج الحدودي فإنها تعبير عن الإفلاس الأخلاقي الذي يميز هذا الأرعن الذي يقود الإسرائيليين إلى الهاوية، كما حذر مفكرون وساسة إسرائيليون مثل جدعون ليفي وعميرة هاس ويوري افنيري وايلان بابي وغيرهم من أن فائض القوة يؤدي إلى فائض التهور، والتهور حتماً يؤدي إلى «نكبة» إسرائيلية مقبلة.