في عالمنا الذي طغت فيه وعليه العولمة التي تجاوزت أبعادها جذرها الاقتصادي والمالي الأصلي الذي قامت عليه، لتصل إلى أبعاد أخرى ثقافية واجتماعية وسياسية وغيرها، أضحى التساؤل حول هوية الشعوب والمجتمعات وحقيقة انتمائها من أبرز ما تبحث عن إجابة مطمئنة له.

وقد زاد من حدة وعمق التساؤل حول الهوية والانتماء في بعض المجتمعات العربية تعدد الأطر التاريخية والثقافية وأحياناً الجغرافية التي تتكون منها، أو التي مرت بها عبر تشكلها التاريخي.

وفي هذا السياق تأتي حالة المجتمع المصري لتبدو نموذجية، حيث تتعدد تلك الأطر التي أسست في مراحل متعاقبة من تاريخه الطويل لهويات وانتماءات مختلفة، بدءاً من الهوية الفرعونية والقبطية والعربية والإفريقية وانتهاءً بالمتوسطية نسبة لحوض البحر المتوسط. وقد شهدت مصر منذ عشرينيات القرن الماضي جدالات سياسية وثقافية واسعة حول حقيقة انتمائها وهويتها، لا يزال بعضها قائم حتى اليوم.

إلا أن تجدد تلك النوعية من الحوارات حول الهوية الرئيسية لمصر لم يعني قط أنها لم تستقر كمجتمع على تلك الهوية، بل كان يشير فقط إلى ما يجري بين أطراف النخبة الثقافية والسياسية المصرية من خلافات وتباينات.

فمنذ نحو سبعة عقود أضحى الإقرار بانتماء مصر إلى محيطها العربي واحداً من أبرز الثوابت التي ترسخت بصورة شبه نهائية في الفكر والممارسة السياسيين في مصر، بعد أن كان محض فكرة تتبناها بعض التيارات السياسية لا تجد تجسيداً واقعياً لها سواء على صعيد برامجها السياسية أو على صعيد سياسات والتزامات الدولة المصرية. فبالرغم من مراحل المد والجزر في علاقات مصر العربية خلال هذه العقود الطويلة، فهي قد قامت جميعاً على ذلك الإقرار بوجود دور ما لمصر في الإطار العربي سواء أكان إيجابياً أم سلبياً.

ولم تقدم الدولة، حتى في أشد مراحل خلافها مع الإطار العربي ما بين عامي 1979 و1985، على إجراء أي تعديل يمس انتماء مصر العربي في وثائقها الرئيسية وفي مقدمتها دستور البلاد ومختلف المعاهدات والاتفاقيات التي تربطها بالعالم العربي، كما ظل التوجه عربياً هو المسيطر على سياستها الخارجية على الرغم من عدم وصول معدلاته أو مجالاته إلى الحد الضروري المحقق للمصالح الحيوية المصرية والعربية المشتركة.

وفي سياق تأكيد الهوية العربية في المجتمع المصري، فقد ترسخ فيه أيضاً موقف مبدئي يتعلق بالقضية الفلسطينية ارتكز على قاعدتين رئيسيتين: الأولى، أنها قضية تمس شعباً عربياً شقيقاً ينتمي ومصر إلى إطار عربي واحد، مما يلزم مصر بمساندته والوقوف المستمر معه خاصة وأن موقفه ومطالبه يستندون على الحق التاريخي والشرعية الدولية بمختلف صورها.

أما القاعدة الثانية فهي اعتبار ما يحدث بداخل فلسطين على الحدود الشرقية لمصر أمراً يمس مباشرة الأمن القومي المصري لا يمكن تجاهله، وخاصة وأنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتعرض مصر لتهديدات عسكرية جدية سوى من تلك الحدود، خاضت بسببها خمس حروب وتعرضت أجزاء من أراضيها للاحتلال.

وفي هذا السياق، فعلى الرغم من تغير ظروف سياسية داخلية وإقليمية كثيرة، فقد ظل الجيش المصري خلال تلك الأعوام وحتى اليوم محتفظاً بالعقيدة العسكرية نفسها بما تتضمنه من طبيعة العدو المحتمل، والتهديدات المتوقعة للأمن القومي المصري، والجهات الجغرافية التي يمكن أن تأتي منها تلك التهديدات أو يتسرب منها هذا العدو.

وقد أكدت السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو بصور متنوعة وعملية على انتماء مصر العربي الذي لم يعد حوله شك، سواء بحرصها على أمن الدول الشقيقة في الخليج العربي، أو تحركها المستمر للحفاظ على الدول العربية الوطنية التي تتعرض للإرهاب والتدخلات الخارجية من الانهيار والتقسيم، أو وقوفها الدائم وراء حق الشعب الفلسطيني والمصالحة بين ممثليه.

* كاتب مصري