بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة 23 يوليو عام 1952، جدير بنا تأمل المعاني والقيم والمبادئ التي استرشدت بها سياسات يوليو داخلياً وخارجياً، وذلك بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق مع هذه السياسات، لأن هذا الجدل حول سياسات يوليو يعكس أولاً أهمية وضخامة مكانة ثورة يوليو في ضمير المصريين، ذلك أن الحدث التاريخي بطبيعته يحتمل الاختلاف والاتفاق خاصة عندما يتعلق الأمر بثورة غيّرت وجه القرن العشرين، من ناحية أخرى فإن توفر الإجماع حول الثورة، أي ثورة وليس فحسب ثورة 23 يوليو، هو أمر يصعب تحققه في الواقع، فمن الطبيعي أن الثورة تخلق توازنات جديدة وتزكي مصالح فئات جديدة وتهز مصالح فئات كانت مسيطرة في النظام القديم السابق على الثورة، في تاريخ الثورة الفرنسية لا يوجد تاريخ واحد للثورة بل ما يفوق الأربع عشرة رواية تاريخية لأحداث هذه الثورة ووقائعها وتقييم لحصادها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالثورات الأخرى.
ربما يكون أول المعاني والمبادئ التي وجهت سياسات يوليو هو طابعها العالمي والإنساني والتحرري، فالثورة لم تكن فحسب ثورة على الأوضاع الداخلية المتأزمة وسيطرة مجتمع النصف في المائة، بل تطلعت الثورة لإطلاق حركة تحررية عربية وعالمية تستهدف التخلص من الاستعمار والتطلع لنظام جديد يمنح الشعوب حقها في تقرير المصير والسيطرة على مواردها، واعتبرت الثورة ممثلة في الزعيم الراحل عبد الناصر أن الثورة المصرية جزء لا يتجزأ من الثورة الكونية ضد الاستعمار والسيطرة الأجنبية، وأن البيئة الحاضنة للثورة لا تقتصر فحسب على القواعد والمرتكزات المحلية والوطنية بل لابد أن تستند على ركائز وقوى في البيئة الإقليمية والعالمية، وهكذا استطاعت ثورة 23 يوليو أن تسهم في صناعة وتوازنات القرن العشرين وأن تجعل من حركات التحرر الإفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية قطباً ثالثاً ومؤثراً في سياسات القطبين الكبيرين الدوليين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، ساهمت الثورة في تشكيل تكتل دولي تحت شعار عدم الانحياز والحياد الإيجابي ورفض التبعية وإتباع سياسات تحترم مصالح هذه الكتلة التاريخية.
بهذا المعنى تجاوز تأثير ثورة 23 يوليو الحدود الجغرافية للوطن وللأمة العربية وامتد إلى مختلف الدوائر المؤثرة في العديد من القارات، أصبحت القاهرة لسان حال حركات التحرر الإفريقية من خلال الإذاعات والبرامج الموجهة بكل اللغات وكذلك مكاتب حركات التحرير الوطنية.
جمعت سياسات يوليو بين الصناعة والتعليم والتحديث في البنى الإنتاجية وبين القيم العلمانية الحديثة وبين احترام الموروث الديني الذي يحفز التقدم واللحاق بالعصر، جمع خطاب يوليو وخاصة زعيمها عبد الناصر كافة هذه القيم الحديثة والمتقدمة في إطار يلائم الخصوصية الثقافية والدينية ويبرز التمييز، ولكنه في الوقت ذاته لا يحول دون الالتحام بروح العصر ومفاهيمه، وفي هذا السياق ميز خطاب يوليو بين الغرب ووجوهه المختلفة.
وثالث هذه المعاني والمبادئ لثورة 23 يوليو يتمثل في رفض تسييس الدين والإصرار على الإبقاء على هوية الدولة المدنية في مصر، تلك الدولة التي افتتحت بها مصر نهضتها الحديثة وتدرجت في الأخذ بالقوانين والتشريعات المدنية التي تستلهم مقاصد الدين الحنيف.
خاضت ثورة يوليو صراعاً وجودياً مع جماعة الإخوان للحؤول دون فرض وصايتها على الثورة والمجتمع باسم «الحاكمية لله» أو «جاهلية المجتمع»، وشقت طريقها الذي حظي برضا الشعب توافقه.
إن هذه المعاني والمبادئ التي استرشدت بها الثورة في وضع سياساتها داخلياً وخارجياً، قد كفلت للثورة مكانتها في الضمير العام، وسكنت في طبقات وعي المصريين حتى أولئك الذين لم يعاصروا هذه الثورة، بل قرأوا عنها أو سمعوا روايات الكبار عن ثورة 23 يوليو ومبادئها، ولا شك أن هذه المعاني والمبادئ جميعاً ربما تتلخص في كلمة واحدة ألا وهي «الكرامة»، فالثورة وزعيمها الراحل عبد الناصر رأوا في هذه الكلمة «مفتاح» الموقف، ولم تفعل هذه المبادئ سوى أن تترجم «الكرامة» في سياسات عملية، فالتحرير الوطني من الاستعمار داخلياً وفي الدوائر المختلفة للسياسة الخارجية المصرية يصب في هذه الاتجاه، وكذلك التوفيق العملي الميداني بين الحداثة والعصر وبين الخصوصية الثقافية يؤكد قدرة الذات الوطنية على التفاعل والبناء، ورفض الدولة الدينية يعني رفض الوصاية على الضمير الفردي والجمعي.
لهذه الأسباب وغيرها ستبقى ثورة يوليو ماثلة في ضمير المصريين كنموذج ومرجعية قد يصعب استعادتها ولكن يمكن الاستفادة من قيمها ومبادئها.
كاتب مصري