سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاك الله، أنت معلمنا في الصيف وفي الشتاء وفي الربيع وفي الخريف وفي كل خفقة نفس.
ونحن كلنا تلاميذك في الحياة نتعلم منك فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق وسيرة الرجال وتاريخ الأوائل الذين انتقلوا إلى رحمة الله، ولكن سيرتهم ما زالت نديّة تروى في المجالس والمحافل، وأمثالهم وحكمهم ما زالت تدرس لأبنائنا وبناتنا في المدارس والجامعات أو ينبغي أن تدرس.
سيدي صاحب السمو: عندما تقول: تعودت أن أكتب لكم في كل صيف عن بعض ما تعلمناه من مسيرتنا في القيادة والإدارة، تقول هذا لا لأنك تكتب لنا وتقول في الصيف فقط، فما نسمعه من درر أقوالك ينزل علينا كالغيث طول العام، فيحيي الأرض بعد موتها ويوقظ الهمم بعد سباتها.
ولكن سموك تقصد بهذا القول تنبيه الناس بطريقة غير مباشرة على أن الصيف عندك ليس إجازة فقط يقضيها الناس في غياب عن العمل، بل الصيف والشتاء مرتبطان ببعض، والعمل يبقى عملاً من غير انقطاع لأنه بمثابة الروح في البدن.
نعم... إن الناس تلهيهم أوقات الفراغ عن الواجب، وتعجبهم الأسفار بعيداً عن البلاد وميادين أعمالهم، ولكنك يا سيدي لا وقت لك للفراغ أصلاً؛ لأن عمرك كله للعمل ولاستثمار الوقت والمال والجهد فيما يعود علينا بالفائدة والنفع.
فإن سافرت - سموك - فلا نعرف كيف ترجع ومتى ترجع، وإن رجعت فلا نعرف كيف تسافر ومتى تسافر ثانية، إذاً فأنت موجود دائماً والدوام الحق لله تعالى.
وتقول يا سيدي صعب عليك البحث عن قادة لديهم إنكار للذات و«الأنا»، ولديهم إيمان بالعمل من أجل الغير، وإنني أقول يا سيدي لا يصعب عليك الانتقاء والاختيار، فأنت تتابع أحوال رجالك منذ يوم ميلادهم، وتعرف عن كل شخص أكثر مما يعرف هو عن نفسه.
لكنك يا سيدي تقول هذا، لأنك تبحث عن رجال أنت تريدهم أن يكونوا رجالاً من نوع خاص، فالناس اليوم كما قال الشاعر دعبل الخزاعي:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
والله يعلم أني لم أقل فنـــدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على الكثير ولكن لا أرى أحدا
سيدي أنت تريد أن يكون الرجل أكبر من المنصب الذي يتقلده، ولا تريد الذي يكون المنصب أكبر منه، وهذا يؤيده قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما علّم أصحابه أن لا يطلبوا الإمارة، لأن الذي يطلب الإمارة أي المنصب الرفيع، يكون فيه «الأنا» الذي حذرتنا منه يا سيدي كبيراً، وعندئذٍ لا يستطيع أن يؤدي واجبه الوظيفي كما ينبغي، ذلك أن المسؤول عندما ينتفخ ويرى نفسه أكبر يستصغر المنصب وينظر إلى الناس نظرة دونية فيتخلى عنه رب العالمين.
أما إذا رأى المنصب كبيراً، ورأى المسؤولية ابتلاء من الله فإنه يطلب من الله العون، والله في عون العبد ما دام العبد يتوكل عليه، ويتواضع للناس، ويبذل قصارى جهده في إرضاء الخالق ثم الخلق.
يقال عن الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - إنه عندما عينه الرئيس محمد أنور السادات رئيس جمهورية مصر سابقاً وزيراً للأوقاف دخل مكتب الوزير استجابة لقرار الرئيس، لكنه طلب كرسياً عادياً وجلس عليه طول مدة بقائه في الوزارة، ولوحظ أن هذا الكرسي كان قريباً من باب المكتب.
فأرسل إليه مكتب مجلس الوزراء من يقول له إنه الآن وزير، وعليه أن يجلس على كرسي الوزير، فرد عليه الشيخ أنا أعرف ذلك وها أنا جالس على كرسي يمكنني من أداء وظيفتي فأنظر في القضايا التي تعرض علي وأنا على هذا الكرسي الذي أراه أنه في مستواي.
وقال أيضاً: إنني بنفسي اخترت هذا الكرسي ووضعته في هذا المكان بجانب الباب، لكي يسهل علي الخروج متى استغنوا عني وقالوا إنني لا أصلح للوزارة، وسوف أنفذ القرار بأريحية كما نفذت القرار الأول لأن المنصب طلبني وأنا لم أطلب المنصب.
نعم... سيدي صاحب السمو أنت تريد رجالاً من أمثاله يمتثلون بأوامرك، ويعرفون مرادك، ويحققون الأهداف من اختيارك إياهم في هذه المناصب، لأنك عندما تختار رجلاً أو امرأة لمنصب ما، تريد أن تخدم وطنك، وترفع سقف الإنتاج في سوق العمل، فتعيينك لهم يعد تكليفاً قبل أن يكون تشريفاً، لذلك فإنك تجتهد وتختار بعض الأشخاص لبعض المناصب، لكن بعد قليل ترى أن فلاناً لا يصلح لذاك المنصب فتغير المكان والمكين.
سيدي ما أجمل مبادئك وما أعمق تفكيرك، وما أشجعك على قول الحق! فلقد سمعت منك أكثر من مرة بأذني عندما تختار رجلاً لمنصب رفيع تقول له: اسمع لقد رقيناك وعينّاك في هذا المنصب، ولكن توقع أن تنزل مثلما صعدت إذا لم تحقق الهدف.
سيدي صاحب السمو: وإنني أقول رغم أنك ترى صعوبة في البحث عن القادة بمثل هذه المواصفات التي ذكرتها، أرى أنه لا يصعب عليك ذلك، فأنت اليوم مدرسة تخرج فيها القادة فوجاً بعد فوج، وأنت صاحب فلسفة: لا بد من تأهيل الصف الثاني والثالث.
نعم... وأبشرك يا معلمنا الأول في الحياة بأن الذين تخرجوا في مدرسة محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، اليوم مزروعون في كل المؤسسات والدوائر، والبحث عنهم لا يحتاج إلى مجهر، فإن أردت الرجال فهم على مد البصر، وإن أردت النساء فهن أيضاً على مد البصر.
وأبشرك أيضاً بأن قدرتك على التأثير والتغيير ليست ملحوظة على مستوى دبي ودولة الإمارات فقط، بل على مستوى الوطن العربي وربما على المستوى العالمي أيضاً، وقد رأينا تأثر الكثير من الدول القريبة والبعيدة برؤيتك واستراتيجيتك، وبدؤوا بالفعل يطبقون نظرياتك وتجاربك، وأصبحوا يتقمصون شخصيتك من شدة إعجابهم بك، ويمشون على طريقتك وسنتك في إعطاء الأولوية لمشروع قبل مشروع.
وأصبح واضحاً للعيان أيضاً أنهم اليوم على يقين بأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إذا لم يحدثوا تغييراً جوهرياً في نمط التفكير والحياة من حولهم، فالقناعات الداخلية أولاً ثم إحداث التغيير في أشكال الحياة بما يتماشى مع العصر الذي يعيشه الإنسان، وكيف تريد من الناس أن يتطوروا إذا لم يؤمنوا بالتطوير أولاً، لذلك فإن من القواعد الفقهية عندنا نحن المشايخ: حُكمك على الشيء فرع عن تصوره.
وإننا اليوم لا نستفيد من علم كثير من علماء الشرع لأنهم لا يخالطون الناس، ولا يستمعون إلى غيرهم، ولا يضيفون إلى قراءتهم التي قرؤوها أيام دراستهم شيئاً وباب الاجتهاد مغلق، مع العلم بأن الأيام تتغير ومع كثرة النوازل فإن الأحكام لا تتغير، والصحيح أن تتغير بتغير الأحوال، والقاضي لا يصلح أن يفتي في شيء لم يره ولم يقرأ عنه.
وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فلان لا يعرف الشر أي أنه بعيد عن الناس وبلاويهم، فقال عمر هو أجدر أن يقع في الشر، لذلك قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشرْ
ولكنْ لتوقيـــــــــه
ومن لا يعرف الشرَّ
من الناس وقع فيه
سيدي صاحب السمو: لقد كنت شجاعاً منذ أن توليت رئاسة الشرطة والأمن العام في دبي عام 1968 فاتخذت قرارك الشجاع لمصلحة بلدك.
وعندما قام الاتحاد اقتنع الشيخان زايد وراشد بأنك الأجدر بأن تمسك بزمام الأمن والدفاع لا عن دبي فقط بل على مستوى الدولة، فعيّنت وزيراً للدفاع، وكنت أصغر وزير في هذا المنصب في العالم آنذاك فيما أذكر.
وكنت شجاعاً فيما بعد في اتخاذ الكثير من القرارات التي أنهت مشكلات شركات الاحتكار الأجنبية في كثير من المجالات، وفتحت الآفاق أمام أبناء البلد، وتوليت زمام القيادة في تدريبهم، ووقفت تقول لمن قال لا أعرف: تعلّم، وقلت لمن قال مستحيل: جرّب، وقلت لمن قال لا أقدر: حاول.
أجل... هذا أنت يا سيدي محمد بن راشد علّمتهم الشجاعة والقدرة والمعرفة، وجعلت منهم فرقاء على العمل الجماعي، ووضعت الرجل المناسب في المكان المناسب، وذوّبت الأنانية والعنصرية والفئوية والنرجسية، وحولت دبي إلى مدينة المؤسسات.
فاليوم لا يعرف المراجعون أين ديوان الحاكم، ولكن يعرفون القوانين التي نظمت علاقة المراجعين بالمسؤول، ومهام المسؤولين تجاه الأداء الوظيفي، فأصبح كل مدير دائرة مدير ديوان يعرف واجباته من خلال النظام الموجود في مكتبه.
فالمسؤول اليوم لا يتوقع أن يفاجئه المراجع برسالة من مدير الديوان يجبره على قضاء حاجته، ولكن يتوقع دخول الشيخ محمد بن راشد عليه فجأة في الصباح الباكر، ليتحقق بنفسه هل هو موجود على رأس العمل الذي أنيط به، وهل هو يطبق القانون الذي صدر من سموه لمصلحة المراجع والوطن.
سلمك الله يا صاحب السمو، وأبقاك مع أخيك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لتحققا العدالة والإنسانية اللتين رسمهما الشيخ زايد والشيخ راشد، طيب الله ثراهما، دمتم ودام الحكام جميعاً والأمة بخير في ظل الأمن والاستقرار.