مرّ أكثر من عقدٍ من الزمن على إشعال شرارة الحروب الأهلية العربية المستحدثة في هذا القرن الجديد، والتي بدأت من خلال الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وتفجير الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، ثمّ من خلال اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري بالعام 2005، ثمّ بتقسيم السودان في مطلع العام 2011 وفصل جنوبه المختلف دينياً وإثنياً عن شماله.

وقد رافق الأجندات الإقليمية والدولية المتصارعة على الأرض العربية نموّ متصاعد لجماعات «داعش» المتطرّفة المسلّحة التي استغلّت حالات الفوضى والعنف لكي تمتدّ وتنتشر، بعدما صنعت والدتها «القاعدة» لنفسها قيمة دولية كبرى من خلال أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى بالعالم.

وقد استغلّت إسرائيل طبعاً هذه الصراعات العربية البينية، فواصلت عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة مراهنة أيضاً على تحوّل الصراع الأساس في المنطقة من صراعٍ عربي/‏إسرائيلي إلى صراعاتٍ عربية/‏عربية، وعلى إقامة كيانات طائفية وإثنية تبرّر أيضاً الاعتراف بإسرائيل كدولةٍ يهودية.

وفي ظلّ الظروف العربية القائمة حالياً وما فيها من مخاطر أمنية وسياسية، فإنّ هذه التفاهمات الدولية، خاصة الروسية/‏الأميركية، هي الأمل الوحيد المتاح حالياً لمعالجة أزمات المنطقةوجيّد أن يُدرِك الآن الكثيرون من العرب ما كنّا نحذّر منه منذ بداية الانتفاضات الشعبية من مخاطر غموض التحركات الشعبية التي حدثت وعدم وضوح برامجها ومن يقودها، ومن التبعات الخطيرة لأسلوب العنف المسلّح ولعسكرة الحراك الشعبي السلمي، وأيضاً من عبثية المراهنة على التدخّل العسكري الخارجي، ونتائجه على وحدة الشعوب والأوطان.

إنّ التحرّر الوطني، واستقلالية القرار الوطني، هما الأساس والمدخل لكلّ القضايا الأخرى بما فيها مسألة الديمقراطية. وإنّ أولويّة الإنسان العربي، في أيِّ بلد عربي، هي تأمين لقمة العيش بكرامة وتوفير العلم والسكن والضمانات الصحّية لأفراد عائلته. وهذه الأولوية للمواطن لا تتناقض مع أولويات الوطن من حيث التحرّر والبناء الدستوري السليم. فإذا كان واجب المواطن هو العمل الصالح في المجتمع واحترام القانون، فإنّ واجب الحكومات هو توفير معاني المواطنة التي تحفظ كرامة المواطن وحقوقه أياً كان نسبه أو دينه، فبذلك يتعزّز الولاء الوطني لأبناء الوطن الواحد.

إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون أيضاً الآن إلى بناء مؤسسات وروابط مدنية ديمقراطية تستند إلى توازن سليم، في الفكر والممارسة، مؤسسات فكرية وثقافية وسياسية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية. وإذا ما توفّرت لهذه المؤسسات، القيادات والأدوات السليمة، يصبح من السهل تنفيذ الكثير من الأفكار والمفاهيم والشعارات التي تستهدف نهضة الأوطان والعرب.

لكن السؤال كان، ولا يزال، هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب هو هدم الحاضر دون معرفة بديله في المستقبل، أو كسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، إذ لا يمكن الفصل في المنطقة العربية بين هدف الديمقراطية وبين مسائل الوحدة الوطنية والتحرّر الوطني والهويّة العربية.

ولا أعتقد أنّ هناك أمَّةً في العالم تشهد خليطاً من الصراعات والتحدّيات كما هو عليه حال الأمّة العربية. فهذه الأمَّة تشهد، وعلى مدار قرنٍ من الزمن، مزيجاً من الأزمات التي بعضها هو محصّلة للتدخّل الخارجي والأطماع الأجنبية، وبعضها الآخر هو إفراز لأوضاع داخلية يسودها التمييز الاجتماعي والفوضى الاقتصادية والفساد الإداري، إضافة إلى جمود فكري متواصل في كيفيّة فهم الدين وعلاقته بالمجتمع، وليس بالحكم.

وقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي واجهت العرب، خليط الأزمات يؤدّي إلى تيه في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر.

ولا ننسى ما حدث في نهاية القرن الماضي، من ضغوط أميركيّة كثيرة من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل قبل إنهاء احتلالها للأراضي العربية وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، كمدخل لمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو المشروع الذي جرى الحديث عنه علناً في مطلع حقبة التسعينات بعد مؤتمر مدريد للسلام، وأوضحه شيمون بيريز آنذاك بما كتبه من دعوة لتكامل التكنولوجيّة الإسرائيليّة مع العمالة المصريّة مع المال الخليجي العربي في إطار «شرق أوسطي جديد» يُنهي عمليّاً «الهويّة العربية» ويؤسّس لوضع إقليمي جديد تكون إسرائيل فيه بموقع القيادة الفاعلة.

ربما المنطقة العربية الآن هي عشية مرحلة بدء الخروج من النفق المظلم الذي ساد لسنوات، لكن هي المرحلة الأخطر لأنّ كلّ طرف معني بصراعات المنطقة سيحاول تحسين وضعه التفاوضي على «الأرض» قبل وضع الصيغ النهائية للتسويات. ولعلّ ما يزيد من حجم المرارة في وصف الحاضر العربي أنّ الشعوب، وليس الحكومات فقط، غارقة أيضاً في الانقسامات!

 

مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن