انضمت العاصمة العراقية بغداد بكثافتها السكانية ورمزيتها السياسية إلى المحافظات الغاضبة في الوسط والجنوب في تصعيد مقلق جداً لبعض الأوساط في العملية السياسية، فقد تجاوزت الشعارات المطروحة ما هو مطلبي يتعلق بتوفير الحد الأدنى من الخدمات التي تسمح بالعيش الكريم إلى ما هو سياسي يهاجم الأحزاب، ويطالب بإسقاطها، ويتجاوز ذلك إلى المطالبة بإسقاط النظام نفسه. الصيف هو الموعد مع التظاهرات منذ سنوات عدة فحرارة هذا الفصل تضع إنجازات! الحكومات المتعاقبة تضع الحكومات على المحك.

ومع أن الأيام الأولى لهذه التظاهرات شهدت مطالب وشعارات غير متسقة تكشف عن عفوية انطلاقها إلا أن الأيام التي أعقبت ذلك بدأت تشهد بروز هيكلية تنسيقية تجاوزت الأماكن التي تنطلق فيها إلى مدن في محافظات أخرى، ما عمق من مخاوف الطبقة السياسية الحاكمة.

لم تخلُ التظاهرات في بداياتها من أحداث عنف، إذ لم يكتفِ المتظاهرون بالتعرض إلى مقرات مجالس المحافظات بل صبوا جام غضبهم على أحزاب الإسلام السياسي التي تعرضت مكاتب بعضها إلى محاولات اقتحام، سقط فيها قتلى وجرحى ضاعفت من مخاوف اندلاع الصراعات المسلحة خاصة أن الدولة لم تنجح حتى الآن في حصر حيازة السلاح بأجهزتها. كما أن الحكومة لم تتردد من جانبها في استخدام القوة المفرطة في بعض الحالات مما دعا المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق ومكتب الأمم المتحدة في بغداد إلى التنديد بذلك، فالتظاهرات حق يضمنه الدستور للمواطن ويشترط قيام الأجهزة الأمنية على حماية المتظاهرين.

تأتي هذه التظاهرات في وقت تعاني فيه العملية السياسية من انسدادات خطرة وسط عجز الحكومة عن تقديم حلول ناجعة لمواجهتها بسبب غياب استراتيجية شاملة لمواجهة فداحة ما تراكم على مدى خمس عشر سنة من أخطاء وعمق ما وصل إليه الفساد من تغلغل، فقد طغت أخبار التظاهرات على أية أخبار أخرى تتعلق بالمفاوضات حول تشكيل الحكومة المقبلة التي أصبحت شبه معطلة تحت ضغوط هذه الاحتجاجات.

الأزمة مرشحة للتصاعد لأن أية من القضايا المطروحة، وهن كثار، تحتاج لفترة زمنية قد تصل إلى سنوات لإصلاحها، خلية الأزمة التي شكلها رئيس الوزراء العبادي عمدت إلى حلول ترقيعية لإسكات الأصوات الثائرة باستحداث درجات وظيفية في مؤسسات الدولة المترهلة أصلاً والتي تشكو من التضخم الذي يشكل عبئاً مرهقاً على ميزانية الدولة وهي بذلك تعمل على ترحيل المشكلة وليس حلها.

من الصعب إلقاء التهمة على جهة بعينها، فالكل مسؤول عما وصلت إليه أحوال العراق من تردٍ كما أن الطبقة السياسية المتنفذة لا تستطيع تقديم حلول حقيقية لافتقادها رؤى وبرامج لبناء الدولة. وقد عمدت بعض قياداتها إلى الاعتذار والاعتراف بالخطأ متجاهلة حقيقة أن الخطأ في عالم السياسة لا يعالج بالاعتذار بل يتطلب التنحي ولدينا عشرات الأمثلة عن ذلك في الدول الديمقراطية.

حظي الوضع السياسي في العراق بدراسات شتى من مداخل متعددة خرجت بسيناريوهات مختلفة لمقاربة أزماته لم تكن بمعزل عن التأثر بالأجواء السائدة محلياً وإقليمياً، والحقيقة أن الخلل الأساسي يكمن في بنية العملية السياسية نفسها، فقد بوشر بها مبكراً دون إعداد كاف وكُتب الدستور على عجل وأقر في ظروف شهدت الكثير من الضغوطات. هناك دعوات من جانب بعض السياسيين لتصحيح هذا الخطأ وهو الاستجابة لمطالب المتظاهرين وإلغاء نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة طوارئ أو إنقاذ وطني لمدة سنتين أو أكثر يعاد فيها كتابة الدستور لتلافي العيوب والإشكالات الكثيرة فيه.

الإجراءات التي اتخذتها حكومة العبادي والوعود لم تنجح في تهدئة الغضبة الجماهيرية حيث لم تكتفِ الجماهير الغاضبة بالتظاهر في المدن الجنوبية وخاصة البصرة بل زادتها إلى القيام باعتصامات مفتوحة في مناطق اقتصادية وليس من المستبعد أن تقضي هذه الغضبة على فرص العبادي في الحصول على ولاية ثانية، وتنهي هيمنة حزب الدعوة، الأكثر إدانة له على ألسنة المتظاهرين، على مقاليد العملية السياسية وقد تتجاوز كل ذلك إلى ما هو أبعد.

حكومة العبادي تدير الأزمة باستراتيجية عدم الذهاب بعيداً في إغضاب الطبقة السياسية المتنفذة التي تتمسك بما حققته من مكاسب، مالاً وجاهاً، ومن هذا المنظور فهي غير قادرة على وضع حلول ناجعة لها.

كاتب عراقي