إيران تكابر كثيراً في خطابها السياسي إزاء العقوبات التي أقرتها واشنطن إثر انسحابها من اتفاقية (5+1) النووية، فهي تتحدى الأسرة الدولية مهددة بإغلاق مضيق هرمز في حال فرض إجراءات صارمة على صادراتها النفطية، متجاهلة حقيقة أن أوضاعها الداخلية الملتهبة لا تسمح لها بالدخول في هكذا مواجهات.
فهي عاجزة عن تلبية مطالب مشروعة لمواطنيها الذين اتسعت تظاهراتهم، وامتدت إلى معظم المدن الإيرانية ومنها مدينة «قم» معقل الساسة المحافظين في المؤسسة الحاكمة. تظاهرات لم تعد تكتفي بطرح المطالب التي ترتبط بما يتعلق بمعالجة مرارة الحياة اليومية، بل تجاوزت ذلك إلى مطالب سياسية تطالب بعزل المرشد الأعلى، في تصعيد ملفت لمنسوب الاحتجاج على الرغم من القمع الذي تمارسه السلطات ضدها.
الولايات المتحدة تعلن عن بدء المرحلة الأولى للعقوبات الجديدة التي تشل قدرات إيران على التعامل النقدي، حيث حظر عليها الحصول على الدولار وعلى الذهب وعلى المعادن الثمينة الأخرى، وحظر عليها الحصول على قطع الغيار لوسائل النقل المختلفة، وعلى رأسها الطيران التجاري، في ضغوطات تعتبر متوسطة التأثير لشل قدراتها على التواصل مع ميليشياتها، ستتلوها المرحلة الثانية في نوفمبر المقبل، والتي ستتناول الحظر على مبيعات النفط والغاز ومشتقاتهما واستبعادها من النظام المصرفي العالمي، وهو مما يدخل الإدارة الأميركية في تحديات مع دول مهمة أوروبية وآسيوية بعضها من حلفائها في الناتو أعلنت عن نواياها بعدم الالتزام بذلك، لأنها عقوبات لم تصدر عن الأمم المتحدة.
إيران لم ترضخ للإرادة الدولية وتذهب لطاولة التفاوض على برنامجها النووي في فيينا قبل سنوات من غير أن تخضع للعقوبات التي لم تترك لها خياراً آخر، سوى تقديم تنازلات أدت إلى توقيع الاتفاقية النووية عام 2015.
فهي لم تكن آنذاك بوضع اقتصادي أسوأ مما هي فيه الآن، ولم يكن وضع نظامها السياسي أضعف استقراراً وأكثر عزلة مما هو عليه الآن، ومع ذلك ذهبت مضطرة من غير خيارات سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات لا للتحدي بل للالتماس من أجل أن تكون الشروط التي تفرض عليها أقل قسوة. العقوبات التي ستتذوقها إيران مع بدء المرحلة الثانية في نوفمبر ستكون أقسى كثيراً من سابقاتها فهل مكابرتها الآن في رفض التفاوض حقيقية؟ وإن كانت كذلك فعلام تراهن؟
تصعيد العقوبات على إيران إلى مستويات غير مسبوقة ليس لغرض إلزامها على تغيير سلوكياتها كما ورد على لسان الرئيس الأميركي، واشنطن تضع قيد التنفيذ خارطة طريق وترسم سيناريو إسقاط النظام السياسي في إيران.
في هذا السياق قد يتبادر إلى الذهن بأن العقوبات وحدها على قسوتها قد فشلت في إسقاط النظام في كوبا وفي العراق وفي كوريا الشمالية، إلا أن هذه الدول لم تشهد خلال فترة الحصار الطويل الذي فرض عليها حراكاً شعبياً معارضاً، كما تشهده المدن الإيرانية وهو ما تراهن عليه واشنطن التي ترى في إيران صيداً أوقع نفسه بخياره الخاص في فخ من الصعب الإفلات من حبائله، فهي لم تستفد من التجربة السوفييتية التي فشلت في التوفيق بين انتهاج سياسات توسعية لا تتناسب مع قدرات قاعدتها الاقتصادية.
حصرت إيران نفسها في زاوية ضيقة بسياساتها الانعزالية بأخذها خيار الهروب إلى الأمام، حيث رفضت العرض الأميركي بالجلوس إلى طاولة الحوار دون شروط مسبقة للتوصل لصيغة اتفاقية جديدة، معتبرة إياه بمثابة حرب نفسية تشن عليها يراد بها خلق الفوضى بالداخل.
ومع أن المرشد الخامنئي أعلن عن موقف بلاده «لا حرب ولا تفاوض مع واشنطن»، إلا أن إيران قد بدأت بالتصعيد الإعلامي ضد الولايات المتحدة موظفة في الوقت نفسه ميليشياتها في إقلاق الوضع الأمني الدولي هنا وهناك مما يعمق من أزمتها ويضاعف الغضبة العالمية ضدها، خاصة حين تعمد إلى عرقلة الملاحة في الممرات المائية الدولية.
وحين تصل إلى القناعة التامة بالعجز عن المواجهة وعدم قدرة من تعوّل عليهم في التخفيف من الحصار الذي يفرض عليها وتحت ضغوطات أوضاعها الداخلية المتهالكة تعمد للخيار الثاني وهو اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية ومواجهة الشروط الاثنى عشر التي سبق أن وضعتها الخارجية الأميركية، وهو ما سيضع الرئيس روحاني وحلفاءه وفي مقدمتهم وزير خارجيته محمد جواد ظريف في مواجهة مصيرية مع المرشد الأعلى المدعوم بالتيار الأصولي المتشدد وبسلطة الحرس الثوري وسط شارع ثائر ورافض للجميع.
كاتب عراقي