خمسة وأربعون عاماً مرت على نصر أكتوبر العظيم. هذا الانتصار الذي سيظل خالداً في تاريخ أمتنا، وعلامة فارقة في تاريخ الحروب، وشاهداً حياً على قدرتنا على تحقيق الأصعب حين تتوفر أقل الإمكانيات، ودرساً لا ينسى أنهى الأسطورة الزائفة التي روّجها العدو الإسرائيلي بأن جيشه لا يقهر!!
خمسة وأربعون عاماً مرت. تغيرت الأوضاع في المنطقة لكن الحرب على «أكتوبر» لم تتوقف، ومحاولات تشويه النصر العظيم لم تتوقف، والحملات التي استهدفت ذاكرة الأمة كانت «أكتوبر» على الدوام أحد أهدافها الأساسية. والأجيال العربية التي لم تعش أيام العبور المجيدة تتعرض لحملات العدو المتواصلة التي تريد أن ترسخ في أذهان أجيالنا العربية - زوراً وبهتاناً - أننا لا نعرف طريقنا إلى النصر!
ولعل هذا يضعنا مباشرة أمام الدرس الأول والأهم الذي يجب أن نعيه من نصر أكتوبر العظيم، وهو أن هذا الانتصار الذي غيّر مجرى التاريخ كان صناعة عربية مائة في المائة، وبقدر ما يزعج هذا أعداءنا حتى اليوم، بقدر ما ينبغي أن يكون باعثاً على الثقة في النفس عند أمتنا التي تحاصرها الأزمات وتخوض حروب الإنقاذ على أكثر من جبهة.
كان قرار الحرب قراراً عربياً اتخذته القيادتان المصرية والسورية لتواجه إسرائيل الحرب على الجبهتين الشمالية والجنوبية في وقت واحد.
وكانت هناك منذ حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية قوات رمزية لجيوش عربية وضعت كل إمكانياتها رهن حرب الثأر المنتظر. وكان الخبراء الروس «الذين كانوا لا يتولون عمليات قتالية» قد تم سحبهم من مصر قبل عام، ولم تكن هناك قوة عالمية يمكن أن تقول إن لها إسهاماً مباشراً مع الجانب العربي في حرب أكتوبر.
وكما كان قرار الحرب العسكرية قراراً عربياً خالصاً، كان أيضاً قرار منع إمداد البترول عن أي دولة تدعم العدو، ولا أظن أن دور زايد العظيم، رحمه الله، في هذا الشأن يمكن أن ينسى حين لم يرض بأن يكون المنع جزئياً أو على مراحل، وأصر أن يكون قطع البترول عن داعمي العدو شاملاً وفورياً. متحملاً بشجاعة ومسؤولية تبعات هذا القرار الذي دعمه كل الأشقاء العرب، لتكون الرسالة واضحة: إن كل إمكانات العرب سوف تسخر لتحقيق الهدف وإنجاز العبور العظيم إلى نصر يعيد الأرض والكرامة، وينهي أسطورة جيش العدو الذي لا يقهر.
وحتى عندما أدركت واشنطن حجم الهزيمة التي لحقت بالكيان الصهيوني، وفتحت مخازن السلاح الأميركي، وأقامت الجسر الجوي لنقل السلاح للأرض المحتلة لإنقاذ إسرائيل التي بكت رئيسة وزرائها وهي تقول لأميركا إن إسرائيل تواجه اقتراب نهايتها!!.. حتى عندما حدث ذلك لم يطلب العرب أن يقاتل أحد من أجلهم، ولم يكن طلب «الحماية» من أي قوة أجنبية مطروحاً عليهم، كان القرار فقط أن نذهب بأموالنا إلى موسكو، وأن ندفع مقدماً ثمن السلاح المطلوب لمواجهة الموقف على جبهات القتال، ولن ننسى هنا دور الرئيس الجزائري الراحل بومدين الذي قام بالمهمة ولا دور من تسابقوا في دعم هذا الجهد في تمويل صفقات السلاح. لتظل الحرب عربية، وليكون النصر بعد ذلك عربياً خالصاً.
مرت خمسة وأربعون عاماً على نصر أكتوبر. نسي الكثيرون الدرس الأهم، تصور البعض أنهم قادرون وحدهم على صنع المعجزات، فكانت النتيجة أن دمروا أوطانهم، وتصور البعض أن شراكة المصير العربية يمكن أن تكون قيداً عليه، فكانت نهاية من غرد خارج السرب العربي مؤلمة، وهزيمة مؤكدة، وبحث البعض عن الحماية عند أطراف أجنبية «دولية أو إقليمية» ليجدوا أنفسهم مجرد أدوات في صفقات مشبوهة أو في «لعبة أمم» قرارها ليس في أيديهم!!
ثمن نسيان درس أكتوبر كان فادحاً. الغزو الأميركي دمر العراق ثم سلم القرار فيه لإيران، لتكون معركة استرداد قراره المستقل أهم التحديات إلى جانب القضاء على الميليشيات الداعشية والإيرانية، والمغامرات الفردية لم تمنع المؤامرة لتدمير ليبيا ونهب ثرواتها، والعبث الحوثي بمصير اليمن اعتماداً على تحالف مشبوه مع إيران كان سبباً في مأساة لن تنتهي إلا بعودة اليمن لأهله وضرب كل محاولات مد النفوذ الفارسي ليكون قاعدة للتخريب في الخليج العربي كله.
وفي ظل مناخ عالمي تعود فيه أجواء الحرب الباردة بسرعة فائقة تتزايد المسؤولية في الحفاظ على الأمن والاستقرار في أوطاننا، مستفيدين من تجارب الماضي، ومدركين أننا وحدنا القادرون على تأمين بلادنا من المخاطر. ببناء قوتنا، واستقلال قرارنا، وتصميمنا على أن يكون القرار عربياً، ورفضنا لكل محاولات الابتزاز أياً كان مصدرها (!!)
وحتى تكون الأمور واضحة. فإن علينا أن نؤكد أننا لن نقبل تحت أي ظرف محاولات القوى الإقليمية غير العربية لمد نفوذها داخل الوطن العربي.
هناك تحالف عربي حقق شيئاً للوطن العربي بعد تحالف أكتوبر، وهو التحالف الذي دعم عملية سقوط حكم الإخوان الإرهابي في مصر، وهو التحالف الذي يقود المعركة ضد الإرهاب الحوثي والإخواني والداعشي في اليمن ومحاولات مد النفوذ من جانب إيران وتركيا وإسرائيل من ناحية أخرى. هذا التحالف الذي قاطع قطر حين خرجت عن الصف العربي وتآمرت على أشقائها في الخليج والوطن العربي، والذي يخوض المعارك من أجل استعادة الفعل العربي بعد طول غياب.. هو القادر على أن يكون المستوعب الأكبر لدرس أكتوبر الأهم، وهو أن حرية العرب واستقرار أوطانهم وتقدمها، وحمايتها من كل المخاطر، هو مسؤولية عربية. أولاً وأخيراً.
خمسة وأربعون عاماً بعد نصر أكتوبر علمتنا الكثير.
* كاتب مصري