الأمة العربية هي حالة فريدة جداً بين أمم العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدت لكل الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية قبل قرون من الزمن. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.

وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإقليمية والعالمية، وسترتج أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي الذي تتحكم به القوى العالمية الكبرى.

ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع والتنافس على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقف أصلاً على شعوب الأمة العربية ومدى وعيها وتضامنها وقوة المناعة في دولها.

عالم اليوم يتغير كثيراً، خاصة منذ سقوط «المعسكر الشيوعي» وتحول الولايات المتحدة إلى نقطة المركز والقيادة في دائرة الأحداث العالمية. فإدارة بيل كلينتون، التي حكمت 8 سنوات (1993-2001)، عززت مفهوم «العولمة» كبديل عن انقسام العالم بين «شرق يساري» و«غرب رأسمالي»، وهو ما كان عليه وصف حال العالم لنصف قرن من الزمن.

أيضاً، حرصت إدارة بوش الابن في سنواتها الثماني (2001-2009) على الحفاظ على سياسة «العولمة»، لكن بمضمون عسكري استهدف فرض واقع الإمبراطورية الأميركية والانفراد بالقرار الأميركي في تقرير مصير الأزمات الدولية، بعدما طغى في حقبة كلينتون أسلوب الهيمنة الأميركية بمضمون تجاري واقتصادي.

ووجدنا لاحقاً في فترتي إدارة أوباما (2009-2017) محاولة لإعادة ما ساد في حقبة كلينتون من «عولمة» تجارية واقتصادية، ومن تجنب لاستخدام القوة العسكرية الأميركية في مضامين هذه «العولمة»، ومن سعي لمشاركة أميركية فاعلة في عدة تحالفات واتفاقيات دولية، كالشراكة بين دول المحيط الهادئ، وكاتفاقية «نافتا» مع المكسيك وكندا، ودعم العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وكالاتفاقية الخاصة بالمتغيرات المناخية.

لكن مع مجيء إدارة دونالد ترامب إلى «البيت الأبيض» اتجهت أميركا، ومعها قريباً ربما عدة دول، إلى سياسة التخلي عن «العولمة» بجانبيها الاقتصادي والعسكري، واستبدالها بسياسات قائمة على «قوميات شعبوية» ومصالح وطنية خاصة، وقد لمسنا هذا التحول الأميركي في الأسبوع الأول من حكم ترامب من خلال أمره التنفيذي بالخروج من «اتفاقية الشراكة» مع دول المحيط الهادئ، ومن أزمته مع المكسيك، ومن مواقفه من «اتفاقية نافتا» ومن اتفاقية باريس بشأن المناخ، ومن تصريحاته عن «حلف الناتو»، ومن تشجيعه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ومن يتابع تصريحات قادة الأحزاب اليمينية المتطرفة في عدة دول أوروبية يجد جامعاً مشتركاً وتوجهات ضد كل مضامين العولمة، وعلى قاعدة المفاهيم العنصرية.

المسألة الأخرى، التي ترادف موجة التراجع في الغرب عن العولمة لصالح القوميات، هي استغلال العامل الديني لتبرير العنصرية ضد الشعوب والثقافات المغايرة، كما لمسنا ذلك في التيارات الدينية المحافظة التي تدعم المرشحين الأميركيين والأوروبيين اليمينيين.

وخطورة هذا العامل في الحياة السياسية بالدول الغربية هو أنه يجنح بحكامها نحو التطرف والتناقض مع دساتيرها ومجتمعاتها العلمانية، ويجعل حربهم مع الجماعات الإرهابية في العالم وكأنها حروب مع أديان وقوميات أخرى!.

ولعل أبرز المضامين التي أعطيت لمفهومي «الشرق» و«الغرب» هي قضايا تميز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وثقافية. فـ «الغرب» هو مصطلح يعني الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر، وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم، رغم الطابع الديني المسيحي لهذه الشعوب. وبالتالي، فإن دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنية جغرافياً بتوزيع العالم بين «الشرق» و«الغرب»، هي دولة منتمية لمعسكر «الحضارة الغربية»!.

وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها في دول «الغرب» الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها «دولة غربية» و«شرق أوسطية» معاً، إذ إن تسمية «الشرق الأوسط» تنزع الهوية العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية (دول شمال أفريقيا) وتضيف إليها إسرائيل، بكل ما تمثله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي «غربي».

وفي الحالتين: تقسيم العالم سابقاً إلى «شرق» و«غرب» أو لاحقاً إلى «شمال» و«جنوب»، هناك مسؤولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسؤولية الإمبراطوريات التي صنعت استقرارها وتقدمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كله على مدار عقود من الزمن تنمية في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلف وفوضى وحروب في معظم المجتمعات الأخرى.

لكن المنطقة العربية تحديداً، كانت وستبقى، مستهدفة من القوى الدولية والإقليمية الكبرى بسبب ما تتميز به عن غيرها من بقاع العالم بميزات ثلاث: فأولاً، تتميز أرض العرب بأنها أرض الرسالات السماوية، وثانياً، تحتل أرض العرب موقعاً جغرافياً مهماً جعلها في العصور كلها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسط وأبواب المحيطات، وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيرات طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم.

وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محط أنظار كل القوى الكبرى التي تتعامل مع هذه المنطقة كوحدة متكاملة مستهدفة وفي إطار خطة استراتيجية واحدة لكل أجزاء المنطقة.