تبدّلٌ طال أجله يلوح في أفق السياسة الصينية الأميركية. فبعد عقود مما عرف بـ«الارتباط البنّاء» الذي سهّل صعود نجم الصين على الرغم من انتهاكها القوانين والمعايير الدولية، تسعى أميركا اليوم لاتخاذ إجراءات مواجهة بشكل ملموس وفاعل. لكن السؤال الأهم يتمحور حول ما إذا كان الأوان قد فات أصلاً على كبح لجام البلد الذي برز بمساعدة الولايات المتحدة، كمنافس جيوسياسي أساسي لأميركا.
بدءاً من عهد الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون وصولاً إلى الرئيس السابق باراك أوباما، اعتبر رؤساء أميركا المتعاقبون أن المساعدة في صعود الصين اقتصادياً مجرد مسألة اهتمام قومي. وبالرغم من أن الصين قد تصدت لقوانين التجارة العالمية وأرغمت الشركات على مشاركة الملكية الفكرية الخاصة بها، والتباهي بقدراتها العسكرية، تمسكت أميركا بالأمل بأن تقدّم الصين وازدهارها سيؤديان بطبيعة الحال إلى تحرر اقتصادي وسياسي حتى.
«حلم الصين» الأميركي كما يسميه جيمس مان، لخَّصه دفاع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون للسماح بانضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، باعتبارها خطوة تبشّر بـ«مستقبل أكثر انفتاحاً وحرية للشعب الصيني».
غير أن ذلك لم يحدث إذ رسَّخت الصين موقعها في قلب سلسلات إمداد التصنيع العالمية مع نقل عدد لا يُحصى من الشركات إنتاجها إلى البلاد، بما فيها أميركا. مع الإبقاء على أسواقها وسياساتها وشعبها تحت قبضة حديدية. بل قد شهد الحكم الديكتاتوري الصيني مزيداً من التحصينات في السنوات الخمس الأخيرة عقب استخدام الحزب الشيوعي التقنيات الرقمية لبناء دولة مراقبة، في الوقت الذي أنفقت فيه الولايات المتحدة تريليونات الدولارات على عجز الميزان التجاري الثنائي.
ومع ذلك استمر الحلم الصيني لأميركا وأدى لرعاية الرئيس السابق باراك أوباما البلد التي خلقت وسلّحت الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي. وفي أوج بناء الحكومة الصينية للجزر أشار أوباما إلى أن «الخشية من الصين الضعيفة المهددة يفوق الخشية من الصين الناجحة الصاعدة». وعليه باتت الصين تحكم بفعل قوة الأمر الواقع السيطرة على ممر بحري استراتيجي تعبر من خلاله ثلث التجارة البحرية العالمية، وكل ذلك من دون تكبّد أية تكاليف دولية.
إلا أن السنوات الأخيرة بدأت نقاشات سياسة الصين في الولايات المتحدة تعكس المزيد من الواقعية، في ظل تنامي عدد الأصوات المدركة لمطامع الصين في الحلول محل أميركا كقوة عالمية عظمى رائدة. وأدى ذلك إلى إطلاق أميركا أخيراً على الصين اسم «القوة الرجعية» و«المنافس الاستراتيجي». وقد اتهم نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الصين أخيراً وبشكل صريح بأنها «تستخدم الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية كما الدعاية السياسية لتعزيز نفوذها وخدمة مصالحها».
وقد ترجم هذا التبدّل النظري عملياً، حيث احتلت حرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب التجارية تحديداً عناوين الصحف، على الرغم من إخفاق العديد من المراقبين في إدراك الاستراتيجية الكامنة خلف التعريفات الجمركية.
وتذهب خطوات إدارة ترامب أبعد من فرض التعريفات، وترمي إلى تغيير بنيوي في سياسة أميركا حيال الصين التي تنذر بإعادة تشكيل تجاري وجيوسياسي في العالم. وبما أنه تغيير يتماشى مع بداية إجماع الحزبين لصالح اتخاذ المزيد من الخطوات الجازمة لاحتواء الصين، فمن المرجح أن تتخطى مرحلة عهد ترامب.
لا يعني ذلك، في المقابل تبني الولايات المتحدة لسياسة مواجهة مع الصين، أو كما يظن البعض أن تطلق بالضرورة شرارة حرب باردة. بل إن ما تأمله أميركا هو أن تتمكن من استخدام قوى ضغط اقتصادية مبدئية لإضعاف الصين. لكن، هل سيكون ذلك كافياً أو فاعلاً؟ لاسيما أنه بات معلوماً أن الصين قد دخلت في تنافس محموم مع أميركا على تصدر الواجهة العالمية تكنولوجياً وجيوسياسياً، كما أنها تتباهى بالرأسمالية الاستبدادية كبديل عن الديمقراطية.
مما لا شك فيه أنه بفضل الخطوات الجبارة في مجال تدعيم نفوذها التكنولوجي والجيوسياسي، أصبحت الصين في موقع قوي يؤهلها لمواجهة الضغط الأميركي. وليس هذا من باب القول إن المساعي الأميركية لا طائل منها، بل قد يكون التبدل في السياسة الأميركية الفرصة الأخيرة لوقف الصين قبل أن تؤمن التقنيات الجوهرية التي تحتاجها لضمان اليد الطولى جيوسياسياً في آسيا وما بعدها. ومع أن الأوان قد تأخر لإرغام الصين على احترام القوانين الدولية وحقوق الإنسان، فإنه لم يفت مطلقاً لوضع حدّ لجموحها المدمر.
* أستاذ الدراسات الاستراتيجية بمركز أبحاث السياسة في نيودلهي