باشر الدكتور عادل عبد المهدي مهام منصبه رئيساً لمجلس الوزراء في العراق بوضع لمسات مختلفة عما وضعها سابقوه، ما يمكن اعتباره بمثابة تحد للواقع الذي كرسته النخب السياسية.
فقد اختار مكتباً خارج المنطقة الخضراء لممارسة مهامه كمرشح لرئاسة الوزارة وعقد لاحقاً، بعد اعتماد وزارته في المجلس النيابي، أول اجتماع للمجلس خارج هذه المنطقة، وقد سبق له أن أعلن عن نيته إزالة العوائق التي تفصل هذه المنطقة وتحرم الدخول إليها.
كما أعلن أنه لا يعترف بوجود دولة عميقة وأن هناك دولة واحدة يتولى هو رئاسة مجلس وزرائها، ويبدو أنه اختار مدخلاً لذلك، وبدأه بإعادة هيكلة المكاتب المرتبطة برئاسة الوزارة وإجراء تغييرات جذرية فيها.
عبد المهدي يعلن أنه لن يغادر العراق في المئة يوم الأولى من تبوئه منصب رئاسة الوزارة، وهي إشارة لها دلالاتها السياسية، فالمئة يوم الأولى في سدة الحكم قد أصبحت جزءاً من التقاليد السياسية الأميركية لأول مرة منذ تبوأ فرانكلين روزفلت منصب الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1933 لمواجهة الكساد الاقتصادي، واعتبرت منذ ذلك الحين مقياساً مبكراً لمدى نجاح الرئيس في مهمته ومؤشراً على مستوى الأداء المتوقع على مدى الدورة الرئاسية البالغة أربع سنوات.
فالرئيس الجديد يواجه عادة في هذه الفترة الزمنية أبرز ما ترك سلفه من قضايا آثر ترحيلها له. فهل يوجه عبد المهدي بهذا التصريح دعوة للمهتمين بالشأن السياسي العراقي لتقييم أدائه نهاية المئة يوم؟
البيان الوزاري للدكتور عبد المهدي كتب بعناية وهو بمحاوره الخمسة جاء كما جاءت برامج سابقة لإسلافه، ثرياً أنيقاً مرتباً مهندماً فضفاضاً ومجدولاً وفق مراحل محددة تنتهي بنهاية الفترة الرئاسية، دون أن يشخص بوضوح العقبات التي تعترض تنفيذه، وهي كثيرة على رأسها الفساد الذي تكرس وتغلغل بعمق في جميع مفاصل الدولة.
البيان الوزاري فيه الكثير من الوعود التي تدخل تحت باب المثاليات، وربما ترقى إلى مستوى التمنيات في أطر الأوضاع السياسية الراهنة في العراق من جهة، ومدى الحرية التي يتمتع بها عبد المهدي في اتخاذ القرارات لتنفيذها بعيداً عن قيود الكيانات الكبيرة التي تراقب عمله وتترصد هفواته من جهة أخرى.
من السابق للأوان تقويم وزارة الدكتور عبد المهدي التي تعرضت لنقد شديد من قبل بعض الأوساط الإعلامية، فهي لمّا تكتمل بعد إذ لم يتمكن من إمرار سوى ثلثيها في مجلس النواب، معظمهم غير معروفين، ولم يسبق لهم أن شغلوا مواقع وظيفية متقدمة يمكن من خلال أدائهم فيها رسم صورة لما ستنجزه، ومدى ملاءمة قدراتهم مع متطلبات البرنامج الوزاري، وهو ما تسبب في توجيه النقد في وسائل الإعلام.
يباشر عبد المهدي مهام رئاسة الوزارة في ظروف محلية وإقليمية بالغة الحساسية، فعلى المستوى المحلي عليه وبشكل عاجل تقديم ما يخفف من الغليان الشعبي، خاصة في محافظة البصرة التي أطاحت بسلفه وحرمته من ولاية رئاسية ثانية، وعلى المستوى الإقليمي انتهاج استراتيجية منحازة بالكامل لصالح العراق مع قرب فرض المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران التي تتطلع إلى العراق كبوابة للالتفاف على هذه العقوبات والتخفيف من شدتها.
أوضاع العراق لا تزال استثنائية متشظية في كل حدب وصوب منذ خمس عشرة سنة، معالجتها بحاجة ماسة لزعامة سياسية قوية وحازمة تتجاوز التقيد بتوافقات الكيانات السياسية، وهو ما اشترطه عبد المهدي لقبوله التكليف، إلا أن من الصعب القول إنه قد صمد في موقفه أمام ضغوطات هذه الكيانات، وأن خياراته لشخوص وزارته قد جاءت وفق ذلك.
تنفيذ البرنامج الوزاري لحكومة عبد المهدي يتطلب مواجهة شجاعة للقضية الجوهرية، فالإصلاح في العراق يتطلب قبل أي شيء آخر إصلاح النظام السياسي الذي سمح بتقهقر البلد عقوداً من السنين إلى الوراء والعمل على إحالة الأفراد والكيانات السياسية المسؤولة عن ذلك إلى القضاء.
فمن البديهيات التي لا جدال حولها أن تكشف العيوب وتُدان السياسات المنحرفة ويُفضح عرابوها في أطر النظام الديمقراطي في أي بلد من العالم، وذلك للحضور القوي لمؤسسات هذا النظام وللهامش الواسع من الحريات المتوافرة في إطاره، فالفساد بأنواعه من الصعب أن يتفشى في بلدان تحكمها أنظمة ديمقراطية وهي مفارقة محيرة من الصعب تفهمها في الحالة العراقية.