في السياق العام لتاريخ المنطقة العربية نجد أنّ «الخارج الأجنبي» يتعامل معها كوحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه هذا «الخارج» أبناء الداخل العربي إلى التمزّق والتشرذم.
إنّ الانتماء الوطني والقومي، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، بل هو جلد جسمنا الذي لا نستطيع تغييره مهما استخدمنا من بدائل مصطنعة. وسواء رضينا بذلك أم لم نرضَه، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني الذي ينتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.
هذا من حيث المبدأ. أمّا من حيث التفاصيل، فإنّ من مشكلات الحالة العربية الراهنة مسؤولية الخجولين من انتمائهم قبل غيرهم، لأنّهم اعتقدوا أنّ هناك مشكلة في أوطانهم فرضت عليهم «الخجل» بالهويّة، إلا أنّهم عوضاً عن حلّ المشكلة أو المساهمة بحلّها قدر الإمكان، اختاروا التهرّب من الانتماء المشترك، فهم سلبيون أمام مشكلة تعنيهم، فهربوا منها، إمّا إلى الأمام لانتماءات أممية (بأسماء تقدمية أو دينية)، أو للخلف بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية.
إنّ العروبة والانتماء لها فخرٌ لنا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفينا فخراً أنّ أرضنا العربية كانت أرض كلّ الرسالات السماوية، وأنّ الله عزَّ وجلَّ كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، وكانت هذه الأرض الطيّبة منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين وفي كلّ مكان.
يكفينا فخراً أنّ القرآن الكريم هو خاتمة الرسالات السماوية، أنزله الله تعالى عربيّاً على نبيٍّ عربيّ في أرضٍ عربيّة.
يكفينا فخراً أنّ ما تعيش عليه الحضارات الحديثة من علوم وفلسفة وطب وثقافة وهندسة، ما كان ليحدث لولا المساهمات التي قام بها العرب في مراحل ازدهار الحضارة العربية وانتقالها إلى الغرب في قرون سالفة.
يكفينا فخراً أنّ الأرض العربية هي أرض خيرات طبيعية وصلة وصل بين قارات العالم وشعوبه.
إلا أنّ هذا المجد والاعتزاز والافتخار بالتاريخ الحضاري وبالموقع الجغرافي، لا قيمة له ما لم نجعله بالعمل المستمرّ وبالمسؤولية الواعية، حاضراً نعيشه، وجسراً يصل بنا إلى مستقبل أفضل.
فإذا ما كانت المشكلة على الصعيد التحرّري أنّنا نعاني احتلالاً لبعض الأراضي العربية، فإنّ هذه المشكلة تعرّضت لها دول في العالم نعتبرها مثالاً الآن، وهذه الأمم لم تنتهِ بمجرّد حدوث احتلال لأراضيها.
ففرنسا جرى احتلالها من قبل ألمانيا النازيّة، وكذلك تعرّضت معظم دول أوروبا للاحتلال النازي، وكان هذا الاحتلال مشابهاً للحالة العربية الراهنة من حيث عدد وضخامة الدول الأوروبية التي تعرّضت للاحتلال من دولة نازية واحدة.
كذلك، فإنّه رغم الصراعات الدموية التاريخية بين شعوب أوروبا، نجدها الآن تقيم ما بينها أواصر الاتحاد والتكامل من خلال صيغة بُنيت على وضع دستوري سليم في بلدان هذا الاتحاد. فلماذا لا يأخذ العرب بالنموذج الأوروبي من حيث القدرة على تحويل سلبيات الصراعات التاريخية إلى حالة البناء الداخلي السليم والعلاقات التكاملية بين الأوطان والثقافات والمصالح المتعددة؟!
ولأنّ الشعوب هي مجموعة أفراد، ولأنّ الوطن هو مجموعة مواطنين، فإنّ المستقبل العربي يتوقّف على مجهود كلّ فرد فيه، ويتحمّل كلّ مواطن عربي في كلّ مكان مسؤولية وأمانة رسم آفاق هذا المستقبل، وتصحيح خلل المعادلة ما بين المقومات الإيجابية التاريخية والجغرافية للأمّة العربية وبين الواقع السلبي الراهن لمعظم أوطان الأمة.
المشكلة الآن في ضعف الهُويّة العربية المشتركة هي التسميات الطائفية والمذهبية والإثنية المنتشرة الآن. وفي هذا الأمر تكمن مخاطر الانفجار الداخلي، وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين البلدان العربية، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلد عربي.
وحينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تفرّخ حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً.
إنّ العروبة المنشودة ليست دعوة لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هي عودة إلى أصالة هذه الأمَّة ودورها الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللعنصرية.
إنّ «الكلّ العربي» هو مكوَّن أصلاً من «أجزاء» مترابطة ومتكاملة. فالعروبة لا تلغي، ولا تتناقض، مع الانتماءات العائلية أو القبلية أو الوطنية أو الأصول الإثنية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
إنّ الشخص العربي هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية أو لأصول ثقافية عربية. فالهويّة العربية لا ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. والعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتى في دائرة العالم الإسلامي. فالانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتحاد بين بلدانها.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن