لقد علمتنا التجارب أن الموت نوعان والحياة نوع واحد، فالذي يموت بيولوجيا تنطوي صفحته في الحياة، ويختفي من الحياة إلّا إذا تخلد ذكره بعمله، فهو حي حتى لوكان جسده تحت الثرى.
وعلى سبيل المثال الشيخ زايد رحمه الله، لا يزال بيننا، فهو لم يغب لا عن قلوبنا ولا عن حياتنا. وهناك الموت الحقيقي غير البيولوجي عندما يعيش الإنسان بلا عمل ولا موقف فيكون في عداد الأموات، إن غاب لا يفتقد وإن حضر لا يعد. أما الحياة فهي لمن يعمل ويخدم أهله ومجتمعه ووطنه والإنسانية. هذا الإنسان يعيش حياةً مستمرة تمتد من حياة الدنيا بعمله وعطائه إلى حياة الخالدين، حين يبقى أثره خالداً في الحياة بعد موته.
وقد شهد تاريخ بلادي العديد من الخالدات والخالدين الذين استمرت حياتهم حتى بعد وفاتهم، ومنهم والدتي (عوشة بنت حسين آل لوتاه) رحمها الله، فهي ذات سيرة جعلت منها من نساء الإمارات الخالدات بما قدمته من عطاء صار مبعث فخرٍ لها ولنا وللوطن.
ولأبدأ حديثي عنها من ذلك الزمن الذي لم يظهر فيه النفط بعد، كانت كل إمارة تتكئ على مواردها من التجارة وصيد اللؤلؤ، وكان جدي لأمي المرحوم حسين بن ناصر آل لوتاه من كبار تجار اللؤلؤ، حيث امتدت تجارته بين الهند ودبي وعجمان، كما عُرف عنه أنه كان شاعراً وفارساً وذا مكانة اجتماعيةٍ رفيعة وكان بيته موئلاً لكل طارقٍ لحاجةٍ كما أنه كان ذا مجلس لا يخلو من عشرات الضيوف.
في مثل هذه البيئة الكريمة وتحت كنف شخصية كهذه نشأت والدتي (عوشة بنت حسين آل لوتاه)، وحين كان والدها يجلب المعلمين من المملكة العربية السعودية ليعلم أولاده البنين لم يستثن عوشة من فرصة التعلم، فكانت مع أخوتها على مقاعد الدرس رغم عدم وجود مدارس في ذلك الزمن، بل يتعلم الأولاد في الكتاتيب.
لقد نالت أمي عوشة رحمها الله من والدها كل الرعاية والاهتمام، وكانت شغوفة بالتعلم والمعرفة، واهتمت بنساء جيلها في توعيتهن وحل مشاكلهن بصبر وحكمة، وكان مجلسها عامرا بالنساء. ومما يذكره الآخرون عن كرمها وشهامتها خلال الحرب العالمية الثانية حين مرت المنطقة بظروف عصيبة.
حيث شحت الموارد وانقطعت الإمدادات عن منطقة الخليج العربي، فكانت (عوشة) هي الذراع اليمنى لوالدها في إدارة شؤون الأسرة، توزع المساعدات على عشرات البيوت المحتاجة.
ثم بعد زواجها وانتقالها لدبي حظيت باهتمام الزوج فكان يحترم ثقافتها ورغبتها في توعية نساء جيلها، ففتح أمامها فرص العمل الثقافي والمجتمعي، فاستمر مجلسها في توعية النساء وكانت تصلها الصحف العربية فتتابع ما يجري في العالم العربي، ومما يذكر عنها أنها في الخمسينات كانت تراسل الرئيس جمال عبد الناصر وكتبت له تؤيده في ثورته ثم في تأميمه قناة السويس .
وفي انتصاره على العدوان الثلاثي. كان حسها العروبي القومي حاضراً كما هو حسها الوطني في توعية النساء ثقافياً واجتماعياً ومساعدتهن في حل مشاكلهن والنظر بحكمة إلى ما يحتاجه الوطن منهن من عون وبناء جيل صالح يعتز بهويته الوطنية ويساهم في بناء الوطن، وما نحن بناتها وأولادها إلا ثمرة من ثمار تلك الثقافة التي غرستها في نفوسنا.
ولست أنسى ما حييت قرارها الشجاع عندما أكملتُ الثانوية العامة، ولم تكن في الإمارات جامعات، أرسلتني لأدرس في الكويت ثم لأميركا والقاهرة حتى نلت الدكتوراه بفضل دعمها وتشجيعها.
إنني إذ أستذكر عطاء والدتي (عوشة بنت حسين بن ناصر آل لوتاه) فكأنما أستذكر ما أعطته الكثير من نساء ذلك الجيل المضحي الذي مهد لبناء النهضة الحديثة، وبنى جيلاً قوياً بعزيمته وإرادته.
لقد رحلت والدتي عوشة عام 1992 م، لكنها لم ترحل، لقد كفكفت دمعي في حينها، وقررت أن ألغي (كلمة موت) من قاموس محبتي لأمي، فقمت بإنشاء (رواق عوشة بنت حسين الثقافي) ليكون منارة ثقافية ومعرفية، ترعى الثقافة والمعرفة وتشجع عطاء الأمهات والآباء بجوائز سنوية كما تشجع الشباب المبتكر وأصحاب الهمم المبدعين بجوائز سنوية أيضاً، وأنشأنا مجلساً للدراسات ومعهداً للتعليم.
ولأنها كانت تحتفي برمضان بتقديم وجبات الإفطار للصائمين لذلك درجنا على تقديم وجبات الإفطار وتقديم السلة الغذائية للمئات في كل رمضان.
لقد مر سبعة وعشرون عاماً من العطاء المتواصل، ولا يزال هذا الرواق منبراً لكل ما يعلي شأن وطننا الإمارات الحبيبة ويساهم في الرقي الثقافي والمعرفي لمجتمعنا الناهض في ظل قيادتنا الحكيمة والله الموفق.
* رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي