إذا كان التراجع في مسيرة العولمة مطلع القرن الحالي هو من أذكى نزعة العودة إلى الهويات الوطنية في عدد من دول أوروبا إلا أن ذلك لم يكن له تأثير يذكر في مناطق أخرى من العالم، فهاجس الهوية والانتماء الوطني بقي المحرك الأساسي لجميع الحركات السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين انطلاقاً من مشاعر المظلومية والغبن الذي حاق بمصالح شعوبها جراء السياسات الاستعمارية التي انتهجت إزاءها.

إلا أن الصورة قد تغيرت واعتراها الكثير من الاهتزازات في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت إشكالية الانتماء للوطن وطبيعة الهوية التي يحملها المواطن تؤرق وتربك الكثيرين جداً في أكثر من بلد في الشرق الأوسط بحكم حالة التمزق واللا استقرار التي تمر بها شعوب هذه البلدان. فالمواطن فيها بات يقف حائراً متسائلاً عن هويته في خضم التجاذبات العاصفة التي يتعرض لها وسط الانقسامات الحادة والصراعات التي تتسم بالعنف في مجتمعه على الرغم من المشتركات العديدة بين مكوناته التي نشأت وتطورت عبر العيش المشترك لعقود طويلة من الزمن. فتوالي الأزمات، الأمنية منها بشكل خاص، ينعش نزعة الميل نحو الانتماء الضيق ويعزز الدوافع نحو الحمائية المرجوة خاصة حين توضع أبعادها بقوالب تعزز ذلك.

في الصراعات الخارجية بين الدول تُستدعى الهوية الوطنية لتُضفى على أبعادها لإثارة الحماس ولتكون مدخلاً للتحشيد السوقي لخوضها ولرسم سيناريوهات إدارتها، أما الصراعات الداخلية في الدول نفسها فتتطلب للغرض نفسه استدعاء هويات أخرى ثانوية الأهمية قد لا يكون بعضها معروفاً خارج حدود هذه الدول. فثمة هويات عديدة يجد المرء نفسه في هذه المناسبة أو تلك أسير هيمنتها أو هيمنة عرابوها للدور الذي تلعبه في الاصطفافات الضيقة داخل المجتمع نفسه في غياب الهوية الأصلية، هوية الوطن. الهويات في دولة ما متنوعة قدر تنوع التركيبة السكانية عرقياً ودينياً وطائفياً ومناطقياً وقبلياً وثقافياً، وهي هويات وراثية لم يقم الفرد باختيار أي منها فقد فرض عليه حملها وتحمل تبعات ذلك من قبل آخرين.

إلا أن ثمة هويات أخرى تضفي على الفرد ما لا تضفيه الهويات الموروثة من صفات لأنها من خياراته مثل هويته المهنية التي تتناسب مع رغباته وقدراته أو هويته الفكرية إن كان ممن له إسهامات في تنظيمات أو أحزاب سياسية أو نشاطات في منظمات المجتمع المدني أو جمعيات النفع العام.

ولا نريد أن نختتم تعدادنا للهويات المتوافرة للفرد دون أن نضيف إليها أخطرها على الإطلاق، هوية من خياره أيضا تتجاوز العرق والوطن وأواصر الانتماءات الأخرى يمكن أن نطلق عليها هوية «الانتماء الزمني» هوية تعكس ما إذا كان حاملها ينتمي فكرياً وسلوكياً لعصره أم لعصور غابرة أم لعصور لم تر النور بعد.

حاملو هوية العصر الذي لم ير النور بعد، هوية المستقبل، هم أبرز المُستهدفين وبدرجات متفاوتة من قبل القيادات التقليدية في المجتمعات بشتى هوياتهم لأنهم دعاة تغيير حقيقي في البنى السياسية والفكرية والمجتمعية، دعاة تغيير يتفق ويتناغم مع ما هو جديد لصالح الإنسان وأحلامه في تحقيق حياة أفضل. أما حملة هوية الانتماء الزمني للعصور الغابرة، هوية الماضي، فقصتهم قصة يحيطها الظلام من كل جانب أشغلت ولا تزال تشغل الأسرة الدولية بكاملها، فأفكارهم وأفعالهم لعبت ولا تزال تلعب دوراً هاماً ليس في إعاقة تقدم مجتمعاتها فحسب بل تجاوزت ذلك لتدمير هذه المجتمعات فكرياً وتخريب ما أنجزته على طريق سعيها لمقاربة الحاضر وما يوفره من آفاق لتحسين مستوى الحياة. حملة هذه الهوية لهم حضور فاعل وقوي في مجتمعات الشرق الأوسط ومن النادر أن تجد لهم ذكراً منذ نهاية عصر محاكم التفتيش في أوروبا.

ورغم أن منطقة الشرق الأوسط قد شهدت صراعات هويات على الأسس التي ذكرت بين الحين والحين إلا أنها كانت صراعات أمدها محدود لا تدوم طويلاً إلا أن صراع هوية الانتماء الزمني كان له حضور دائم وفي جميع العصور، إلا أنه اشتد في السنوات الأخيرة بشكل خطير إلى الدرجة التي أوشك فيها على إسقاط أكثر من دولة. ففي غياب دور تنويري فاعل لا تستطيع القوة العسكرية وحدها أن تخفف من غلواء هذا الصراع، ولا من إلغائه بل تغيير طبيعته وربما تأجيل وقعه.

* كاتب عراقي