قد تكون هناك استراتيجيات خالصة، جاءت كنتيجة لا لاختيار حر، ولا لحكمة سلفية، وإنما لقوة قاهرة، فكانت استراتيجية ضرورية أكثر منها استراتيجية اختيار، استراتيجية بقاء أكثر منها استراتيجية انتصار.

بهذه الكلمات، أنهيت محاضرتي العلمية الأخيرة لطلبة التاريخ الأفريقي القديم في جامعة مينيسوتا الأميركية - فرع السنغال- الذين طرحوا على مسامعي سؤالاً مفاده: هل التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الأفريقي القديم يتسم بالهشاشة، لذلك لم يصمد أمام الثقافات الغربية، التي ما برحت أن تقضي على ماهية ذلك المجتمع، حتى سارعت في الإجهاز على ما تبقى فيه من قيم.

قد تكون العاصمة العاجية أبيدجان، هي العاصمة الأفريقية الأولى التي أجهضتُ فيها جميع أفكاري القديمة، وتولدت في نفسي قناعات جديدة، دفعتني للتمسك بها.

وإن كنت غير راغبة في مناقشتها، فمن يريد أن يكتسب المعرفة الحقة على صحة ما ذكره المفكر الأفريقي اللاتيني ولتر رودني، وما سطرته روايات تشينو أتشيبي، وما خطه التاريخ بأنامل ساموري توري، فعليه بالسكن ردحاً من الزمن في الغرب الأفريقي، الذي أخرج للعالم ذات يوم أولئك الرجال الذين صنعوا لأفريقيا إرثاً ثقافياً وأخلاقياً، أبصره ذلك القابع التائه هناك في العالم المتمدن.

أثناء رحلتي من أبيدجان، كبرى المدن الإيفوارية، إلى ياموسوكرو العاصمة السياسية لساحل العاج، توقفت كثيراً أمام ذلك الواقع الذي أُريد له أن يكرر نفسه، من دون كلل، ولكنه يسمح أحياناً بتغير الوجوه، إذا ما ساهمت بإبقاء عجلة الإعادة بدون توقف.

يؤكد المفكر الأفريقي ولتر رودني، في كتابه «أوروبا والتخلف في أفريقيا»، أن أفريقيا قبل الاتصال بأوروبا، كانت خليطاً من جماعات وممالك آخذة في التطور والنمو، وكانت هناك حركة للتاريخ، ولم يكن التخلف الذي ألم بها من الظروف الطبيعية، أو من النماذج التاريخية والثقافية، أو من الديناميات الداخلية الثرية، ولكن كان للاتصال الأوروبي أثره في انقطاع حركة التطور الاجتماعي.

وعدم النضج الطبقي، الذي هو أساس حركة التطور في أي مجتمع، فالتكوينات الطبقية، هي أساس القدرة على بناء هياكل سياسية متطورة، وعادة ما تكون طبيعة النشاط الاقتصادي، هي المسؤولة عن ذلك النضج الطبقي، ومع تأثير الاتصال السلبي في هذه الأبعاد، نشأت حالة التأخر التي نراها اليوم في عموم أفريقيا جنوب الصحراء، ومن الجدير بالذكر، أن درجة التطور والتنمية التي كانت في أفريقيا قبل الاستعمار، لم تستخدم في بلورة الهياكل السياسية والاقتصادية لفائدة أبناء أفريقيا وحسب، بل كان لها تأثيرها في تنمية الرأسمالية في المجتمعات الغربية.

وبذات القدر الذي أسهمت به أفريقيا في تطور وتنمية الغرب، كان للأخير دوره في تأخر القارة الأفريقية، فعلى سبيل المثال، كانت نتيجة سيطرة أوروبا على التجارة الدولية وأدواتها، أنها أدت إلى خلق دول مركزية ودول هامشية، وكانت أول خطوات الأوروبيين، هي جعل الأفارقة لا يستطيعون التخلي عن السلع الأوروبية.

والتي كان يتم استبدالها بأكثر المعادن ثمناً، وبعد أن تم اكتشاف العالم الجديد، بدأت الحاجة للأيدي العاملة، وبدأت تجارة الرقيق، بما كان لها من آثار تدميرية في القارة الأفريقية، تمثلت في تدمير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية الأفريقية، في حين كان لها آثار إيجابية في الغرب، الذي نجح في إيجاد الانقسامات التي تضمن له استمرارية تجارة الرق، بل ونشأ الرق الداخلي لصالح الفئة التي كانت تخدم مصالح الرأسمالية.

وبخاصة في غربي أفريقيا، التي تعد من أكثر المناطق تأثراً بهذه التجارة، حاول الغرب ابتكار الوسائل والسياسات التي يحافظ من خلالها على القارة الأفريقية بشكل يخدم مصالحه، كما حاول أن يطعن في الاستقلال الذي حصلت عليه بعض الدول الأفريقية، وهذه الوسائل تحتاج إلى بذل الكثير من الجهود، تفوق جهود مواجهة الشكل التقليدي من الاستعمار.

تجتمع النخبة الأفريقية اليوم على حديث واحد، مفاده محاولة أفريقيا السير بخطى ثابتة للتوفيق بين ثلاث أفريقيات، في حالة تصادم دائم، وهي: أفريقيا التقليدية أو المحلية، التي عوقبت تاريخياً بوصفها مُتأخرة وبدائية، ومع ذلك، فهي تسير، ولو على مستوى مُتدنٍ من الكفاءة، وإلا لما تمكنت من الإبقاء على أهلها على مر القرون، وهي تكافح اليوم من أجل البقاء، وأفريقيا الحديثة، وأفريقيا المُتوسطة.

والتي تمثل القطاع غير الرسمي، وهو قطاع انتقالي بين التقليدي والحديث، والذي يرى أن معظم مشكلات أفريقيا نابعة من القطاع الحديث، لذلك يجد البعض صعوبة في التعامل مع هاتين الأفريقيتين، وفي المصالحة بينهما، إلا أن الواقع يقول إن أفريقيا تصعد إلى القمة بمشقة، وذاك هو دليل النجاح.

* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي