يمر علينا شهر نوفمبر ولابد لنا أن نتذكر إعلانين مهمين أتيا بوعدين مبتورين. فقبل قرن وسنة في شهر نوفمبر صدر من لندن عاصمة الإمبراطورية البريطانية إعلان بلفور، والذي يعد اليهود بوطن قومي في فلسطين.

وقبل واحد وسبعين سنة وفي شهر نوفمبر أيضاً أصدرت الجمعية العمومية قرار تقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية. القاسم المشترك بين هذين الوعدين وما تلاهما من وعود أنها مبتورة. أي أن الوعود فيها تنفذ لطرف دون الآخر.

فإعلان بلفور يقول «إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وستبذل ما بوسعها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على ألا يتمّ أيّ عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية والتي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية التي تقيم في فلسطين الآن».

وقد نفذت بريطانيا فيما يتعلق باليهود وتسهيل إيجاد كيان سياسي يهودي في فلسطين، ولكنها لم تحمِ الحقوق المدنية والدينية للسكان الأصليين، كما جاء في الإعلان. وفي قرار التقسيم والذي صدر في 29 نوفمبر 1947، قرر إنشاء دولة يهودية ودولة عربية في مدة أقصاها الفاتح من أكتوبر 1948.

كما قسمت فلسطين إلى ثمانية أجزاء أعطيت ثلاثة منها إلى الدولة اليهودية (وهي الأراضي الأكثر خصوبة في غرب فلسطين) وأعطيت ثلاثة أجزاء للدولة العربية. وأصبحت مدينة يافا، وهي الجزء السابع، ذات الأغلبية العربية، مقاطعة داخل الدولة اليهودية، والجزء الثامن هي القدس كمدينة دولية تحت وصاية الأمم المتحدة (كما جاء في وثيقة الأمم المتحدة حول التقسيم).

وكانت حصة الدولة اليهودية حوالي 52% من أراضي فلسطين التاريخية. وحصة العرب 47% من الأراضي الفلسطينية رغم أن العرب الفلسطينيين كانوا أضعاف عدد اليهود في فلسطين أثناء التقسيم. ولكن الأهم إن اليهود أقاموا دولتهم بعد ستة أشهر من قرار التقسيم، وأعلنوا قيام دولة إسرائيل في مايو 1948.

بينما ينتظر الفلسطينيون دولتهم الموعودة إلى كتابة هذه الأسطر. ولا يبدو أن هناك أملاً كبيراً في تحقيق دولتهم المستقلة، والتي وعد بها قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين. وأصبح قرار التقسيم وعداً آخر مبتور. بل أكثر من ذلك، فقد أجهزت إسرائيل على أراضي فلسطينية أكثر من نصف ما خصص للدولة العربية في قرار التقسيم.

وبعد أقل من عشرين سنة احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين في يونيو 1967. ورزح أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وما زالت هذه الأراضي تئن تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي رغم مضي نصف قرن على الاحتلال.

وكان هناك قرار مجلس الأمن 242، والذي صدر في نوفمبر أيضاً لسنة 1967، طالب بـ «انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها، في النزاع الأخير». وجاء في النص الإنجليزي «أراضٍ احتلت في النزاع الأخير»، دون ال التعريف. ويؤكد سيادة الدول على أراضيها «واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، حرة من التهديد بالقوة أو استعمالها».

وقد نالت إسرائيل مبتغاها من أراضٍ ومصادر للمياه وعمالة رخيصة من الأراضي المحتلة، وأراضٍ جديدة لبناء المستوطنات. ولم يلحق الفلسطينيون إلا مزيداً من الحيف ومصادرة أراضيهم والغربة في أوطانهم.

وما حمل القرار 242 من وعود حول نهاية الاحتلال وعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة أصبح كغيره وعداً مبتوراً. فلا دولة قامت ولا انسحاب تحقق ولا أجراس للعودة قرعت.

وأصر أصدقاء الفلسطينيين، قبل أعدائهم، على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل ليحصلوا على اعتراف بحقوقهم. وفعلاً اعترف الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بإسرائيل في ديسمبر 1988— رغم أنه غص وهو ينطق بالاعتراف. وبدا الحوار الأميركي - الفلسطيني في تونس مقر منظمة التحرير الفلسطينية. وحصلت إسرائيل على اعتراف من قبل خصومها التاريخيين.

وبعدها أتت مباحثات مدريد في العام 1991 بين إسرائيل والدول العربية المعنية بالصراع العربي - الإسرائيلي. ولم يقبل إسحاق شامير حينها الجلوس مع منظمة التحرير الفلسطينية رغم اعترافها بإسرائيل وقبولها بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وشجبها للإرهاب بكل أشكاله.

لم يفضي ذلك إلى أي شيء للفلسطينيين وحصلت إسرائيل على الاعتراف الضمني من دول عربية ولم تقبل حتى بالاعتراف بمنظمة وكان وعداً مبتوراً بالنسبة للفلسطينيين.

وجاءت مرحلة أوسلو وكانت أكثر اللحظات الواعدة بالنسبة للفلسطينيين والعرب. والحقيقة أن الكثير استبشروا بالاتفاق وبدا أن الدولة الفلسطينية أصبحت قاب قوسين أو أدنى. وقد أسس للسلطة الفلسطينية موطئ قدم في فلسطين لأول مرة منذ الشتات. ولكن فكرة إسحاق رابين وشمعون بيريز كانت مختلفة.

فالفلسطينيون سيكونون موكلين بالقيام بأعباء الأعمال البلدية وتأمين المناطق الخاضعة للسلطة والحدود مع إسرائيل. ولن يحصل الفلسطينيون على سلطة سيادية على هذه الأراضي والتي انسحبت منها إسرائيل. ثانياً كانت إسرائيل تشهد تحولاً اقتصادياً من الصناعات التقليدية إلى بناء اقتصاد معرفي، والذي يتطلب نقل التكنولوجيا والحصول على أسواق جديدة.

والانفراج مع العالم العربي وبقية الدول التي تقاطع إسرائيل بسبب احتلالها للأراضي الفلسطينية، والذي سيكون أهم دعامة لهذا الاقتصاد المعرفي. وفعلاً حصلت إسرائيل على التطبيع الكامل مع دولة عربية أخرى وهي الأردن.

وكالعادة حصل الإسرائيليون على ما أرادوا من أوسلو سواء أكان التطبيع أم التجارة أم التكنولوجيا، وحصل الفلسطينيون على النذر اليسير من اتفاقهم مع إسرائيل: وعد مبتور مرة أخرى.