حين شاهدت عبر الفضائيات عمليات التخريب التي تجري لقوس النصر في قلب باريس، تذكرت مشهداً مماثلاً جرى في قلب القاهرة، في أحداث يناير 2011، التي انتهت بسقوط نظام الرئيس«حسني مبارك». أحد شباب المتظاهرين في تلك الأحداث يظهر منتشياً ومنتفخاً ويتيه غروراً ليعلن بفخر في حديث تلفزيوني، أنه هو من أحرق المجمع العلمي في قلب ميدان التحرير.

ما يجمع بين المشهدين، أن الصرحين اللذين تم تخريبهما، تاريخيان، فقوس النصر، أثر فني فريد، يعكس رؤية جمالية خلابة، تم إنجازه منتصف القرن التاسع عشر ليخلد قادة فرنسا العسكريين، فضلاً عن أنه مزار سياحي مهم.

أما المجمع العلمي، فهو أثر تاريخي بدوره، أنشأه نابليون بونابرت نهاية القرن الثامن عشر ليصبح أقدم مؤسسة علمية في العالم، تضم نحو مائتي ألف كتاب بالإضافة إلي تراث هائل من الخرائط والوثائق والدراسات والمراجع في مختلف فروع المعرفة، من الرياضيات، إلى العلوم الطبيعية، ومن الاقتصاد إلى الآداب والفنون، وقد تم حرق معظم ذلك من أمهات الكتب، وبينها نسخة أصلية بالفرنسية لكتاب«وصف مصر» الذي ينطوي على رؤية ودراسات وملاحظات نحو 150 عالماً عن مصر إبان الحملة الفرنسية عليها.

المشترك بين المشهدين أنهما جريمة في حق الحضارة الإنسانية، وأن مرتكبي تلك الجريمة، يفتقدون إلى الوعي وإلى الإدراك، وإلى أي قدر من الثقافة، يمكنهم من القدرة على التفرقة بين الحق في الغضب المشروع، وبين العبث والتدمير والفوضى، بما ينتهي بفقدان كل الحقوق.

خطأ مشترك جمع بين متظاهري فرنسا، وأقرانهم في مصر، أن كليهما كان يقوم بتحرك لا قيادة سياسية أو نقابية له، وهنا بالضبط يكمن موطن الخطر، الذي حوله من تظاهر سلمي لرفض رفع أسعار الوقود وارتفاع أسعار المعيشة، إلى حركة عنف منفلت العيار والعقال، تشعل النار في المباني والممتلكات الخاصة والعامة، وتنهب المتاجر، وتحطم أبنية البنوك، وتغلق الطرق، وتمنع المواطنين من التوجه إلي أشغالهم، أو إلى مدارسهم وجامعتهم، وتعتدي على قوات الأمن، وتخلف ضحايا من القتلى والجرحى.

في مواجهة الفوضى والدمار والتخريب التي أشاعته جماعات الجريمة المنظمة والعصابات وفئات من قرى ومدن الهامش الفرنسي التي تشكل نحو 65% من نسبة السكان وأجنحة متطرفة لليمين واليسار، نجحت في صرف مظاهرات السترات الصفراء عن مسارها السلمي، تدرس الحكومة الفرنسية، فرض حالة الطوارئ في أنحاء البلاد، لتضيق بذلك مساحة الحريات الديمقراطية، بالضربة القاصمة التي وجهها العنف إليها.

وحين استولت جماعات العنف بقيادة جماعة الإخوان الإرهابية، على مظاهرات سلمية في مصر تطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية، تحولت الحركة المطلبية إلى حرب تدمير للهوية المصرية بزرع الفتن الطائفية بين أبناء الوطن الواحد، وإشعال الحرائق في مؤسسات الدولة وهيئاتها، الإعلامية، وتعقب العاملين بها ومهاجمة مبانيها، وهدم المباني التراثية، وتحطيم التماثيل وغير ذلك من أعمال الفوضى العارمة التي لا تزال مصر تعاني من آثارها حتى اليوم.

لم يكن تحرك مظاهرات «السترات الصفراء» عفوياً، فقد سبق أن أصدروا فمايو الماضي بياناً للتعريف بأنفسهم كحركة مطلبية اجتماعية بحتة، ليس لها انتماء سياسي أو نقابي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير وللحشد. وكما يبدو فهي حركة تتبع خطى الثورات الملونة التي سبق أن قادت في أوروبا الوسطى والشرقية إلى تغيير جذري في سياسات دول مثل رومانيا وتشيكوسلوفاكيا وأوكرانيا وجورجيا وصربيا، بزعم أنها تحارب أنظمة ديمقراطية مستبدة!

انتقلت المظاهرات من فرنسا إلى خارجها في بلجيكا وهولندا وبعض المدن الأميركية. لتصبح بعيداً عن أعمال السطو والفوضى والتخريب، صيحة احتجاج عالمية، ضد سياسات العولمة، التي تحكمت في مسار النشاط الاقتصادي العالمي، لتحمي نظمه، وتؤدي إلى اتساع التفاوت في الدخل والثروة، وتحمل هؤلاء أثماناً باهظة من أجل الفوز في معركة المنافسة الدولية ليظل التفاوت بين الدول، والتفاوت الموازي داخل الدولة الواحدة قائماً، وإذا لم يتقدم فلاسفة العولمة بحلول حقيقة توازن بين الأرباح الرأسمالية وبين مقتضيات العدالة الاجتماعية، فعليهم أن يتحملوا النتائج الكارثية المتوقعة لتجاهلهم!