ثمانية أعوام مرّت على بدء ما أُصطلح غربياً على وصفه بالربيع العربي، حيث الجموع الشعبية خرجت للشوارع بمسيرات مطالبة بالتغيير السياسي، لكن الحراك الشعبي في هذه المسيرات ولد «خريفياً» بسبب توظيفه وتشويهه لصالح أجندات قوى إقليمية ودولية، وهي القوى التي ساهمت عملياً بإنتاج الظروف المناسبة لظهور الجماعات المتطرفة من خلال عسكرة الشارع واشتعال الصراعات المسلّحة بين الجماعات التابعة لهذه الجهة أو تلك.
وقد كثر الحديث في السنوات الماضية عن مسؤولية حكومات أو عن مؤامرات خارجية أو عن الأسباب الموضوعية لضعف وتشرذم قوى التغيير، ولدينا في الحالة العربية قياداتٍ شريفة ومخلصة للأوطان، لكن المشكلة تكون لدى البعض منها في طبيعة المؤسسات التي تقودها، أو يحصل العكس أحياناً حيث سوء القيادات، أو انحراف بعضٍ منها، يؤدي إلى ضعف وانحراف الدول أو المؤسسات وإلى تفكّكها.
هل هو «ربيعٌ عربيٌّ» فعلاً ما شهدته المنطقة العربية، أم انتقالٌ إلى مرحلة الفوضى والتبعية والحروب الأهلية؟! كلاهما انحطاط وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية منذ زمن بعيد، عندما غاب الرشد إلا في فتراتٍ عابرة لم تصمد طويلاً أمام جشع جماعات الفساد والتطرف في الداخل وقوى التآمر من الخارج. ومنذ ذلك «الزمن الراشدي» لا تتغيّر الأحوال إلا بفعل القوة العسكرية المسنودة أحياناً بدعمٍ خارجي. فهكذا أيضاً وصل الجيش الانكشاري العثماني إلى سلطة «الخلافة»، وحكَم العرب لأربعة قرون! وها هو «الغرب» وتركيا وإيران يعملون الآن جميعاً على العودة القوية لأرجاء الأمة العربية التي ما زال ينبض في وسطها قلبٌ إسرائيليٌّ مصطنَع!
نعم تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم بعض الأنظمة مسؤولة عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن؟!.
ما جرى في عدّة بلدان عربية فيما سمي «الربيع العربي» هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ منها أو عن غير قصد) بين مشروعية العمل السياسي السلمي وبين محرّمات الارتباط بالأجنبي، سواء تركي أو إيراني أو حتى إسرائيلي، أو غربي، كلها تهدف إلى تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودةٌ في الكثير من المجتمعات العربية.
الإدارات الأمريكية المتعاقبة في واشنطن ساهمت في تكريس هذا المناخ المتأزّم عربياً في ظلّ التهميش المتعمّد على مدار عقود من الزمن لحقوق الشعب الفلسطيني.
واشنطن هي التي عجزت عن وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فكيف عن إجبار إسرائيل على الانسحاب وعلى بناء الدولة الفلسطينية المستقلة؟! وواشنطن هي التي تحترم «رأي» إسرائيل، إن لم نقل دورها الفاعل، في تقرير مصائر العراق وسوريا ولبنان، وهي الدول التي لم توقّع بعد اتفاقيات سلام مع الدولة العبرية على جبهة المشرق العربي. وهل هناك أصلاً من مصلحة إسرائيلية في استقرار وإعادة إعمار سوريا والعراق، وبأن يكون كلٌّ منهما بلداً واحداً قوياً ديمقراطياً؟ وهل كان لإسرائيل مصلحة في استمرار وجود لبنان كدولة ديمقراطية مستقرة قائمة على تنوّع طائفي، وكنموذج بديل لحالتها العنصرية الدينية ؟!.
كلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق في أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه «الدويلات»، التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة ولا تقسيم للقدس ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطين لهم في «الدويلات» المستحدثة وتوظيف سلاحهم في حروب «داحس والغبراء» الجديدة بقيادة بعض «الثوار الجدد».
إنّ ما يحدث الآن على الأرض العربية هو ليس فقط متغيّرات سياسية محلية، تتدخّل فيها وتتجاوب مع تفاعلاتها قوى إقليمية ودولية، فهذه المتغيّرات قد تكون قطعة فقط من صورة مرسومة مسبقاً لتغييرٍ جغرافي وديمغرافي لدول عربية عديدة. ألم تكن الحرب على العراق في العام 2003، وما أفرزته من واقع حال تقسيمي للدولة والشعب والثروات، وما مثّلته هذه الحرب من تداخل بين الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، كافية لتكون نموذجاً عن الهدف الخفي المرجو لاحقاً من مزيج الحروب الأهلية والتدخّل الخارجي، وهو ما يحدث منذ العام 2011؟!.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن