«لو دامت لغيرك ما وصلت إليك» حكمة عربية قديمة يرجع تاريخها إلى القرن الـ 5 الميلادي، ويعود أصلها إلى واقعة يحكيها أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي في كتابه القيم «الذهب المسبوك في وعظ الملوك»، حيث يروي أن النعمان بن امرئ القيس (390-418م)، وهو من أشهر ملوك المناذرة، والذي بنى قصر الخورنق بالحيرة، ركب فرساً، فلما أشرف على الخورنق نظر لمن حوله وقال لمرافقيه: «هل علمتم أحداً أوتي مثل ما أوتيت؟» فقالوا: (لا).

إلا أن رجلاً منهم لم يتكلم، وكان من حكمائهم، فقالوا له: «مالك لم تتكلم؟» فقال: «أيها الملك إن أذنت لي تكلمت» فأذن له، فقال:«أرأيت ما جمعت؟ أشيء هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه فصار إليك، وكذلك يزول عنك؟»، فقال الملك: «لا بل كان لمن قبلي فزال عنه وصار إليّ، وكذلك يزول عني».

قال: «فسررتَ بشيءٍ تذهب عنك لذته، وتبقى عليك تَبعتُه، وتكون فيه قليلاً، وتُرتهن كثيراً طويلاً»، فبكى الملك وقال له: «فأين المهرب؟».

المهرب الوحيد يوصينا به سيدي صاحب السمو، وهو ألا تعبد الكرسي! فالوظيفة والمنصب والمسؤولية كلها مؤقتة، ستذهب عنها سريعاً، أو ستذهب عنك. فالكرسي إما أن تفوته وإما أن يفوتك، ولا يمكن لك أن تتشبث به أبد الدهر.

فإن فعلت صرت عبداً للكرسي لا تتصور نفسك بعيداً عنه، ولا تصدق أنك سوف تتركه يوماً، وصار كل همّك هو الحفاظ على هذا الكرسي، ومن هنا تكون قد انزلقت إلى هاوية السقوط.

وتتمثل أولى مصائب هذا السقوط في الانشغال عن المهام المنوطة بمن يجلس على هذا الكرسي، فلا خدمة جيدة للعملاء، ولا مساعدة لهم في إنجاز مصالحهم، فتبوء بغضبهم ولعناتهم، ودعائهم عليك بالخزي عند رب العالمين.

أما مرؤوسوك المظلومون فحدّث ولا حرج، فعندما يدركون أنه لا تقدير عندك للمجتهدين والمتميزين، وإنما للمنافقين والمتزلفين الذين يقنعونك بأنك عبقري عصرك، وأن الزمان نادراً ما يجود بمثلك، فهؤلاء المظلومون، وإن كانوا لن يجاهروك بالسخط والغضب، فسوف يرفعون أكف الضراعة إلى المولى جل وعلا أن يقتص منك. وتذكر دائماً أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

ولن يقف مسلسل المصائب عند هذا الحد، فمع تشبثك بالكرسي سوف تبدأ رحلة التنازلات، وهي رحلة لا نهاية لها.

سوف تكون على استعداد للتنازل عن أي شيء لأي إنسان تتصور أنه سيساعدك على البقاء جالساً فوق هذا الكرسي. وأمام التنازلات تتراجع القيم والأخلاق والمبادئ. ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.

أما إذا كنت ممن لا يعبدون الكرسي، ولديك يقين لا يتزعزع أن علاقتك به علاقة مؤقتة وأنه لو دام لغيرك ما وصل إليك، وأنك مسؤول عن خدمة الناس بمقتضى وجودك على هذا الكرسي، وأن هذه المسؤولية أمانة سوف يسألك الله عنها، انصرف اهتمامك إلى أداء الأمانة على النحو الأمثل، إبراء لذمتك أمام الله، ووفاء لمسؤوليتك أمام من ولّاك إياها، وولاء لهذا الوطن الذي أعطاك الكثير، وسوف تفوز بحب الناس ودعاء إلى الله لك بالتوفيق، فضلاً عن تقدير وتكريم كل من له حق عليك، وسوف يجزيك الله عن كل هؤلاء خير الجزاء.