تمر كثير من المناطق العربية اليوم بكل الصراعات التي كانت تناقضاتها مستورة بحكم السلطات الفاسدة والمفقرة للمجتمع والمستبدة. فالتناقضات المتصارعة اليوم ليست وليدة الانفجارات الاجتماعية التي تمت وتتم أمام أعيننا، كل ما في الأمر أن السلطة المتناقضة مع آمال المجتمع وقد انهارت انكشف إلى العلن ما كانت قد صنعته عبر استبدادها وفسادها، وكانت قادرة عبر القوة العنفية القمعية على إخفائه، فإخفاء الحقائق بالقوة لا يزيل الحقائق في الواقع.
هذه الصراعات الاجتماعية والدينية والإثنية والأيديولوجية ستأخذ حدودها القصوى لتصل إلى النهايات الممكنة لا محالة. غير أن هناك أمراً قد حصل ألا وهو إن السلط التي زالت أو انهارت، عوضاً أن تعترف بالحقيقة وتخلي المكان للجديد، تقوم وبمقاومة التاريخ وإرادة التاريخ، متناسية أنه ليس بمقدورها أن تعود إلى الحياة أبداً.
فحين تعلن النهاية التاريخية عن نفسها فما من قوة قادرة على الحيلولة دون حصولها، بل من الوهم والعبث مجرد التفكير بالنجاة منها.
فالبنى المتخلفة التي حكمت بلدان الانفجارات وصلت إلى النهاية، بل وتأخرت في الوصول إلى النهاية، فلا الإيرانيون ولا الفاطميّون ولا الزينبيون ولا غيرهم بقادرين على منع النهاية، بل إن حضورهم في الصراع كأدوات نجاة أحد أهم معالم النهاية.
ماذا يعني أنه وبعد ألف ونصف الألف من الأعوام يطل علينا كائن بعمامة سوداء متوتر ومنرفز وبصوت مجلجل ويصرخ مطالباً بالثأر، ويقف ضده صاحب عمامة سوداء أخرى يصرخ مطالباً بالخلافة.
يظن أصحاب المهدي وأصحاب الخلافة بأنهم قادرون على تكسير رأس التاريخ والعودة به إلى مئات السنين إلى الوراء.
أية كوميديا سوداء هذه، بل أية حماقة تنتمي إلى ما بعد اللامعقول، وأي عبث تاريخي مدمر للحياة.
هذه القوى المتخلفة، والتي هي صورة عن الدكتاتوريات العسكرية المتأخرة والهمجية وهي معادية للاختلاف والتعدد والحرية، تسعى لتكوين مجتمع التشابه، أي مجتمع الأموات. ونموذجه الآن دولة ولاية الفقيه، ودولة الحوثي المحتلة، وما شابه ذلك.
غير أن هناك حقيقة يغفل عنها الوسخ التاريخي الدكتاتوري والأصولي ألا وهي: لا حرية ولا تقدم ولا كرامة ولا حكم رشيداً ولا اعتقاد ولا أمان ولا تسامح ولا مجتمع صحيحاً وصحياً دون الاعتراف بالاختلاف والحق بالاختلاف والتعبير السلمي المدني والسياسي عن الاختلاف، وحماية الاختلاف من أي عنف سلطوي، وإنتاج السلطة الحقيقية هي التي ينتجها الاختلاف وتعمل بوصفها ثمرة التعبير عن الاختلاف ولكن المعبرة عن المجتمع كله. أجل الحق بالاختلاف الحق بالاختلاف.
فالحق بالحياة، والحق بالاختلاف والتعايش بأمان، والحق بالسعادة يعني بالضرورة العيش تحت شمس التسامح بوصفه روح المجتمع القادر على حل مشكلاته بالعمل وباللغة. فالتسامح المجتمعي لا يعنى سوى تجاوز العنف، لغةً وممارسةً، وتجاوز التعصب والعدوانية المرتبطة بالتعصب.
ولعمري إن ما نقوله في هذا الخطاب صار أقرب إلى البداهة العقلية، ولا ينكره إلا من لا عقل له.
وسائل يسأل: هل يمكن حمل المجتمع على قبول ما لا يطيق، كاستعارة إهاب حضاري وإلباسه إياه: الجواب طبعاً لا. فالأنظمة العسكرتارية المستبدة هي ذلك الرداء الغريب الذي فرضت على المجتمع ارتداءه. إن المجتمع، في بنيته وتطوره، هو الذي يخلق رداءه الحضاري والسياسي في انفتاح على الإنجاز الحضاري الكلي للإنسانية. كيف يكون ذلك؟ هذا ما يحتاج إلى تأمل ونظر.
* كاتب فلسطيني