بادرة طيبة ومهمة جداً قامت بها دولة الإمارات العربية المتحدة بدعوتها للبابا فرنسيس لزيارتها وما تخلل هذه الزيارة من إصدار «وثيقة الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر الشريف. فما جاء في الوثيقة من مضامين هو تعبير حقيقي عن جوهر الرسالات السماوية كلّها في مواجهة ما حصل ويحصل من استغلال لشعارات دينية في مختلف أنحاء العالم وعلى مدار قرونٍ من الزمن.
فها هو العالم كلّه يعاني اليوم من تصاعد ظواهر التطرّف والتعصب والعنف باسم الأديان، بينما تُهمّش فيه مسألة «العدالة الاجتماعية» والحاجة للعدل بين النّاس، بغضّ النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم.
ولم تعد قضية حقّ كلّ إنسان في الحرية وفي المساواة وفي تأمين لقمة العيش وفي توفير العمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية هي الشغل الشاغل لهموم المعارك الانتخابية في معظم البلدان، بل أصبحت أولويات الحكومات تتمحور حول قضايا الأمن والإرهاب، وهم هنا «الآخر» ثقافياً أو دينياً أو عرقياً!!.
أيضاً، تنشغل بعض الدول الآن بصراعات أمنية وسياسية حول قضايا «الدين والقومية والعلاقة مع الأقليات الإثنية»، في ظلّ مشكلة انعدام المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى، المعنيّ بها كلّ البشر.
فالرسالات السماوية كلّها حضّت على العدل بين الناس، وعلى كرامة الإنسان، وعلى رفض الظلم والطغيان والجشع والفساد واستعباد البشر، وعلى إقرار حقّ السائل والمحروم، بينما نجد الآن بعض «رجال الدين والسياسة»، في الشرق وفي الغرب، يحضّون أتباعهم على التعصّب والتزمّت وعلى تقسيم المجتمعات بين «نحن» و«هم»، لكن ليس على معايير سياسية واجتماعية.
الرسالات السماوية وضعت الكثير من الضوابط للسلوك الإنساني على الأرض، تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر، الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوماً الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيَم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق.
فتكون النظرة إلى «الآخر» قائمة على تحقيره أو تسخيره، وليس على المشترَك معه من مفاهيم وقيم دينية أو إنسانية. وكم من حروبٍ وصراعاتٍ دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان «الآخر» في موقع طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتّى أي معرفة مباشرة بهذا الإنسان «الآخر»!!
إنّ الله، عزّ وجلّ، يقاضي الناس ويحاسبهم على أعمالهم بشكل فردي، فلا تُظلَم، بلا ذنب، جماعةٌ بأسرها، عائلةً كانت أم قبيلة أم طائفة أم أمّة، لأنّ أفراداً منها أساؤوا. وهذه الحكمة الإلهية جليّة الوضوح في قول الله تعالى: «ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى»، إذ لا يجوز أن ينظر الناس إلى بعضهم البعض من مواقع إثنية أو دينية، فيتمّ إمّا تكريم أشخاص أو ظلمهم تبعاً لانتماءاتهم، لا بسبب أعمالهم.
كذلك نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم»، وفي ذلك ارتباط حتمي بين الإنسان عموماً في أي زمان ومكان، وبين الكرامة في الوجود والتكريم في الحياة والدور.
لكن ما هو سلبيٌّ مشترَك الآن بين «الشرق» و«الغرب»، هو حجم المسافة الشاسعة بين ازدياد عدد الممارسين للشعائر الدينية، وبين قلّة عدد من يطّبقون ما تدعو إليه الرسالات السماوية من قيم وأعمال صالحة، ومن واجب نشر روح المحبة والأخوة وتحقيق السلام بين الناس.
ولعلّ المأساة تظهر الآن جليّةً من خلال حروب وفتن وأعمال قتل وإجرام حدثت أو قد تحدث تحت «شعارات دينية» في أكثر من مكان شرقاً وغرباً. وللأسف، فإنّ كل مُشعِلٍ الآن لفِتنة على الأرض يختبئ وراء مقولات تستند إلى ادّعاءات الوصل بالأديان، والأديان منها براء.
وليست هي المرّة الأولى الّتي تُعاصر فيها بلدان العالم هذه الأزمات الناتجة عن مزيج من مشاعر العنصرية والكراهية. فالتّاريخ الإنساني حافلٌ بهذه المشاعر السلبيّة بين الجماعات والشعوب. لكن ذلك كان محدوداً في أماكنه، ومحصّلة لتخلّف اجتماعي وثقافي ذاتي أكثر ممّا هو نتيجة لتأثيراتٍ خارجية.
وقد سادت في مطلع هذا القرن الجديد ظواهر تطرّف وأعمال إرهاب شملت جهات الأرض الأربع، ولم تزل فاعلةً في كلٍّ منها، حيث انتعش بعدها التطرّف السياسي والعقائدي في كلّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح «المتطرّفون العالميّون» يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحاتٍ مختلفة!.
بعض وسائل الإعلام الغربية والعديد من السياسيين الغربيين يبثّون في كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر خوفٍ وشكٍّ وريبة في كلِّ عربي وكلِّ مسلم في أمريكا وأوروبا. فهناك مخاطر قائمة الآن على العرب والمسلمين في الغرب حصيلة مزيجٍ مركَّب الأسباب.
فالمجتمعات الغربية، ولأكثر من عقدٍ من الزمن، تتحكَّم في ردود أفعالها السلبية مشاعر الخوف والغضب من العرب والمسلمين، منذ الهجمات الإرهابية لجماعات «القاعدة» على أمريكا يوم 11/9/2001، ثمّ ما تبع هذا الهجوم من أعمال عنف وإرهاب في أوروبا وغيرها خلال السنوات الماضية، وصولاً إلى ممارسات «داعش» التي شغلت الآن العالم كلّه.
وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية بأسماء عربية وإسلامية)، فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول العرب والمسلمين أينما وُجدوا، ثمّ كيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه ما زرعته، منذ عقد التسعينات في عقول الغربيين، كتابات ووسائل إعلامية (مسيَّرة من قبل جماعاتٍ صهيونية أو عنصرية حاقدة) من زعمٍ حول «الخطر الإسلامي» القائم في الغرب!؟ وكيف سيكون أيضاً حجم هذا الغضب إذا ما صدر عن جهلٍ عام بالإسلام وبالعرب وبقضايا العرب والمسلمين؟
وكيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة، قام ويقوم بها عددٌ من العرب والمسلمين حتّى في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها، وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية!؟.