قدّم البشر، عبر تاريخهم المشترك، بعد أن عاشوا في جماعات، ونمت بينهم العلاقات المعشرية والمصالح المشتركة، وتبادل المنافع، ثقافة تنظم حياتهم وتحميهم في الغالب من تغول فئة على أخرى. ومع الخبرة الحياتية وتطور الحياة العقلية والروحية ظهر مبدعو القيم الجمالية والأخلاقية والإنسانية.
وتعينت في نصوص لغوية ولونية وحجرية الخ. فالثقافة الإبداعية شكل من أشكال التعبير عن حب الحياة، وصناعتها، بل والمساهمة الأبرز في تكوين النفوس.
فالرقص كإبداع شعبي هو في الأساس احتفال بالحياة والجسد، وقس على ذلك دور الفنون والآداب والأفكار لعمري، إن تاريخ المجتمع، أو تاريخ أمة من الأمم ليس مجرد تلك الأحداث السياسية والسلطوية والعسكرية، فحسب، بل تاريخ تشكل عقلها في كل أشكاله الجمالية والفكرية والفنية والأخلاقية. تشكل عقلها العملي المتعين في السلوك وعقلها النظري الفني الجمالي الفكري المتعين بالمكتوب والمرسوم.
تبرز المسألة الخطيرة جداً في العلاقة التي تقوم بين التاريخ السياسي العسكري السلطوي والتاريخ العقلي – الروحي. فحين تدمر السلطة الحاكمة، خوفاً من العقل وأشكال ظهوره، الفن والأدب والفكر والقيم، فإنها تدمر تاريخ المجتمع الروحي وتحرمه من الارتقاء الأخلاقي والإحساس القوي بالحياة، وتقوم بهذا الفعل الإجرامي بتعبيد الطريق نحو أخلاق العنف وأيديولوجيا الموت والقتل.
والأخطر من ذلك حين تقوم الجماعة الحاكمة قسراً بإيقاف التحول الطبيعي وشبه القانوني للمجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فإنها تخلق شروط تشويه المجتمع والإنسان، وتنتج كل أشكال الثآليل المرضية في وجه الأوطان. فإذا جرى تحطيم الذائقة الجمالية، والذهنية الأخلاقية، والعقلية العلمية، والهوية المنفتحة، والأحلام المشروعة، والأجنحة القوية والنفس الأبية والفرح بالحرية فما الذي يتبقى من الحياة.؟!
لا يتبقى من الحياة إلا الظلام، لأن الحرية التي تزود العقل بالنور تكون قد اغتيلت، والحي الذي ولد وتكوّن داخل هذا الظلام الذي عممته السلطة المعادية للحياة، يتحول شيئاً فشيئاً إلى فاقد لمعنى الحياة ومبرر البقاء فيها.
فيبحث عن معناه في العدم. ودون أن نفهم التاريخ الراهن للدكتاتوريات العربية على هذا النحو، بوصفه تاريخ هزيمة الثقافة الروحية والعقلية لا نستطيع أن نفهم هذا الانفجار الكبير الذي هو دفاع عن الحياة المأمولة عند التائقين إلى الحرية من جهة وقتل للحياة عند ظلاميي الموت من كل الأنواع من جهة أخرى.
ويكمن الخطر الأكبر المتولد عن همجية السلطة الدكتاتورية وممارستها في القضاء على النخب بكل أنواعها، النخب التي تنتج الحضارة، وترسم طريق التقدم الكلي.
ونتيجة خطر كهذا، تتولد في المجتمع الجماعات الرعاعية الفاشية التي يعبر عنها مصطلح الميليشيات. فالدكتاتورية الفاشية تخلق الشروط الضرورية لتدمير التآلف المجتمعي، وتعمم أخلاق العنف.
وهذا الذي يفسر ظهور الفاشيات التعصبية المستغلة للوعي الديني. فميليشيات أحزاب الله والحشد الشعبي وما شابه في العراق، وميليشيات حزب الله في لبنان، وميليشيات الحوثيين، الذين يسمون أنفسهم أنصار الله في اليمن، والقاعدة حيت تتواجد وداعش والنصرة في الشام والعراق، وأنصار بيت المقدس في مصر، كل هذه المليشيات هي ولائد هزيمة العقل.
من هنا فإن الانتصار على التاريخ القمعي، هو انتصار العقل على الهمجية وهزيمة لتاريخ الانحطاط العقلي والروحي، ومقدمة لولادة الازدهار الروحي. ازدهار القيم والأخلاق والضمير الفردي والجمعي والفن والأدب والفكر. انتصار الاستقرار الحقيقي على الاستنقاع الذي يفرضه عنف البنية المتخلفة.
بل إن انتصار العقل على الهمجية انتصار التاريخ على تلك الدول الأيديولوجية التي تتوهم بأنها عبر تعميم نكوصها التاريخي قادرة على البقاء.
* كاتب فلسطيني