القول إنّ «الإسلام السياسي إضافة إلى الديانة يقحم بعداً سياسياً»؛ هو قول يحتاج إلى التوضيح؛ لأنّ التعريف الصحيح للإسلام السياسي هو ذاك الذي يختزل الإسلام في السياسة، طبعاً كلّ الأديان لها أبعاد ونتائج سياسية، سواء الإسلام أو المسيحية أو اليهودية؛ لأنّ كلّ فعل اجتماعي، مهما كان، من المرجح أن تكون له نتائج سياسية في التاريخ، وبالتالي؛ فالإسلام - كديانة - كانت له نتائج سياسية، لكن اختزال دين معيّن في برنامج سياسي، هذا ما يخرج بنا عن الجانب الديني، ويدخل بنا في إطار توظيف الدّين.
فكلّ الأديان يمكن أن تكون لها أبعاد سياسية، لكن لا يمكن أن تُختزل في السياسة؛ لأنّها لو اختُزلت في السياسة ما سُمّيت أدياناً، بل أفكار سياسيّة، أو أيديولوجياتّ سياسية، والإسلام - كديانة - يتضمّن العديد من الأبعاد، قد تكون لها نتائج سياسية، لكن لا يمكن اختزال كلّ الدّين الإسلامي في السياسة، الحركات المسيّسة بشعارات دينية، إذاً، هي التي تختزل الإسلام في الموضوع السياسي.
«الإسلامويّة» لها دور تخريبي، وهذا ما يشهد به الواقع، بعيداً حتى عن الموقف الفكري، وهذا ما حصل في التجارب التي أطلق عليها خطأ «الثورات العربية»، والتي استحوذ عليها الإسلاميّون؛ لأنّ جميعها انتهت، إمّا إلى الفشل أو إلى حروب طائفية ودينية، أو إلى فشل إدارة الحكم، وعودة الأنظمة القديمة نتيجة هذا الفشل، فلا يوجد لديهم مشروع سياسي إسلامي؛ بل يوجد مشروع اللّادولة.
بالتالي؛ الأشخاص الذين يصلون إلى الحكم، وليس لهم مشروع دولة، يبقى لهم مشروع اللّادولة؛ بمعنى الفوضى الاجتماعية، ومع الأسف؛ هذا ما حصل في بلدان ما سمي بـ«الربيع العربي»، وهذا ما حصل حتى قبل ذلك في العراق مثلاً، صحيحٌ أنّه تعرّض إلى الاحتلال، عام 2003.
لكن هناك العديد من البلدان سابقاً تعرّضت إلى الاحتلال، واستطاعت أن تنهض فيما بعد، لكنّ العراق، إلى اليوم، ورغم انسحاب القوات الأمريكية لم ينهض، لأنّ حكم العراق بعد 2003، خاصّة بعد انسحاب القوات الأمريكية، قام على المقاسمة الطائفية، ونعلم أنّه تمّ بذلك إحياء الصراع الطائفي.
وذاك حال السودان أيضاً؛ الذي شهد حروباً ومواجهاتٍ منذ إعلان ادعاء تطبيق الشريعة، وانقسم إلى السودان وجنوب السودان، وجنوب جنوب السودان، فضلاً عن منطقة دارفور الملتهبة، إذاً؛ كلّ هذه التجارب التي وصفت زوراً بـ«الإسلامية» انتهت بالفشل.
أنّ الإسلام - كديانة - يستطيع أن يتلاءم مع الحداثة، لكنّ تسييس الإسلام ليس ديانة، بل هو اختزال للإسلام في السياسة، والسياسة لا تقوم على المطلقات؛ بل على التفاوض والاقتسام، وتقوم على التغيير الدائم لموازين القوى والانتخابات الدورية، وأيّ طرفٍ يحاول أن يقيّم السياسة على المطلقات، سواء الدينية أو غيرها، سيؤدّي ذلك حتماً إلى الدكتاتورية، أو إلى الفوضى، وهما وجهان لعملة واحدة؛ إذ يسعى لفرض معتقداته وسلوكه على الآخرين، فإمّا أن يهيمن عليهم، أو يدخل معهم في صراع دون نهاية.
كمثال فالمشهد السياسي التونسي مضطرب، والخطاب الديني هو جزءٌ من المشهد، بالتّالي هو الآخر مضطرب، ففي تونس هناك نوع من تسييس الدّين بعد الثورة، ومع بداية عام 2014، لاحظنا تراجعاً عن ذلك، لكنّ البلد بقي في وضع غير واضحٍ؛ إذ كان من المفترض أن تتّضح العديد من الأمور، فهناك مثلاً حزب التحرير الإسلامي، المعترف به في تونس، ينادي بما يدعوه «الخلافة».
ويقول على مسمع ومرأى من الجميع إنّه مع نظام الخلافة، وضدّ النظام الجمهوري، وهو ليس الحالة الوحيدة الموجودة في تونس، لكن ربّما الحالة الوحيدة المعلنة، إنّ وجود أحزابٍ من هذا النوع، هو في حدّ ذاته تحدٍّ، لأنّه مخالف للدستور التونسي.
إنّ الحركات السياسية المتأسلمة التي تولّت الحكم بعد فوضى الثورات العربيّة فشلت في الحكم، وهذا أعطى صورةً سلبيةً عن المجتمعات، وعن العرب، وعن الإسلام؛ لأنّ الأطراف الخارجيّة ترى أنّ الثورات لم تنجح، وتعتقد أنّ سبب ذلك هو أنّ الإسلام، كما قدمته تلك الحركات، مناقضٌ للحريّات والديمقراطيّة، فرغم كلّ الخطابات الوردية التي يقولها السياسيون الرسميون.
فإنّ صورة البلدان التي شهدت فوضى الثورات أصبحت سلبيّة في الخارج إلى أبعد الحدود، بعد موجة من التعاطف في البداية، لا سيما مع الثورة التونسيّة، بشكلٍ خاصٍّ، لكن حصل بعد ذلك نوع من الإحباط بسبب مسار هذه الحركات.
الحل ليس في حظر أنشطة الأحزاب القائمة؛ لأنّها قادرةٌ على العودة من جديد بأسماءٍ جديدةٍ، بالتّالي لن يكون هذا حلّاً مثالياً، لكن قد يكون الحلّ في تطبيق الدستور الذي لا يسمح باستغلال الدّين في السياسة.
كما يجب على هذه الحركات أن تستخلص الدرس من كلّ هذا الفشل الذي تعاقب تاريخيّاً، وليس المطلوب مراجعة الخطاب فقط؛ بل عليها أن تقطع مع ماضيها ذي الأصول الإخوانيّة، وأن تمارس السياسة كما يمارسها الأشخاص العاديّون من خلال البرامج، وليس من خلال مقولاتٍ دينية.