العالم يشهد المزيد من الصراعات، فيما تتآكل الكوابح التي نجحت سابقاً في السيطرة على الصراعات ومنعها من الانفجار، أو حلها إذا حدث وتفجرت، وكلها علامات على أن العالم يتجه إلى أن يصبح مكاناً أكثر خطورة.
هذا ليس أمراً جديداً بالنسبة لنا في الشرق الأوسط، فقد حدث التغير في إقليمنا منذ عدة سنوات، ومن يومها تعلمنا النوم ونحن واقفين بعيون مفتوحة، فالذئاب المنتشرة في كل مكان لا ترحم، وما أن يحل التعب أو الغفلة على دولة من دول المنطقة إلا وانقضوا عليها ليفترسوها.
الإحساس المتزايد بالخطر يبدو جديداً على دول العالم خارج منطقتنا، خاصة بالنسبة لدول المركز الرأسمالي الأكثر تقدماً وثراء في أوروبا. خاضت دول أوروبا حربين عالميتين مدمرتين خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكنهم تمتعوا بعدها بأطول فترة سلام عرفها مركز العالم طوال تاريخه الحديث.
غير أن السلام الذي شهده العالم لعقود لم يعد مضموناً الآن، فالمظاهر والتطورات المثيرة للقلق أصبحت أكثر توتراً بلا كابح، وترتيبات التعاون الدولي وحرية التجارة والاستثمار راحت تتراجع، ليحل محلها التنافس الجيوستراتيجي وسباقات التسلح والحروب التجارية.
لقد زادت النفقات العسكرية للقوى الدولية الرئيسية، ودخل العالم في سباق تسلح جديد يشمل مجالات الأسلحة التقليدية والنووية والصاروخية، بل ويشمل الفضاء أيضاً.
لقد ارتفعت ميزانيات الدفاع في بلاد العالم الرئيسية بما اقتربت نسبته من 5% في الفترة 2010-2017، إلا أن دولاً معينة رفعت من نفقاتها الدفاعية بمعدل يزيد كثيراً عن المتوسط العالمي، فقد ارتفعت ميزانية الدفاع الروسية بنسبة 13% خلال هذه الفترة، لكن الزيادة الأكبر جاءت من الصين التي زادت نفقاتها الدفاعية بنسبة 97%، أي أن الصين تقريباً ضاعفت نفقاتها الدفاعية خلا السنوات السبع الأولى من هذا العقد.
اتفاقات الحد من التسلح كانت من ضمن الآليات التي مكنت القوى الكبرى من تخفيف التوتر في فترات سابقة، فكانت من ضمن الآليات التي جرى استخدامها لبناء الثقة بين القوى المتنافسة.
لقد مر زمن طويل منذ تم التوصل لآخر اتفاق للحد من التسلح بين روسيا والولايات المتحدة، وهو اتفاق الحد من الأسلحة الاستراتيجية الذي تم توقيعه بين الولايات المتحدة وروسيا في عام 2010، أو ما عرف باتفاق «نيو ستارت».
منذ ذلك الحين والتوتر يتزايد بين القوى الكبرى، حتى أن معاهدات سابقة للحد من التسلح يجري الانسحاب منها، مثلما حدث عندما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية الصواريخ متوسطة المدى الموقعة مع الاتحاد السوفيتي عام 1987.
ويثير انسحاب أمريكا من هذه المعاهدة قلقاً شديداً في أوروبا، نظراً لأن القارة الأوروبية هي المعنية أكثر من غيرها بالصواريخ متوسطة المدى التي يمكن إطلاقها من روسيا لتصيب أهدافاً في أوروبا.
نقل سباق التسلح من الأرض إلى الفضاء هو أحدث مظاهر العسكرة المتزايدة للنظام الدولي. فالصين لديها خطط طموحة لاستكشاف الفضاء. ترفض الصين الإفصاح عن حجم الميزانيات التي خصصتها لهذا الغرض، إلا أنها أعلنت عن نيتها تأسيس محطة دائمة على سطح القمر، وعن تخطيطها لإطلاق مركبة إلى المريخ في العام القادم، ومركبة أخرى إلى المشترى، أكبر كواكب مجموعتنا الشمسية، بحلول عام 2029.
اهتمام الصين بالقمر أعاد إحياء اهتمام الدول الأخرى به، بعد أن كان الباحثون قد كفوا عن الاهتمام بالقمر منذ عدة سنوات، وذلك تحسباً لقيام الصين بتطوير استخدامات عسكرية لوجودها على القمر.
وفي الإطار نفسه، تعمل الحكومة الأمريكية لتأسيس قوة عسكرية للفضاء، لتصبح الفرع السادس للقوات المسلحة الأمريكية، ويكون لها مساعد وزير مختص بالمسؤولية عنها، يعمل تحت وزير القوات الجوية، ويكون لها رئيس أركان يشارك في اجتماعات الأركان المشتركة. لقد تم تضمين القرارات الخاصة بإنشاء هذه القوة ضمن ميزانية عام 2020، وما إن تحظى هذه الموازنة بموافقة الكونغرس إلا وتصبح قوة الفضاء الأمريكية حقيقة واقعة.
كل هذه المخاطر والتهديدات هي من النوع الثقيل والخشن، وهناك بالإضافة إلى ذلك قائمة طويلة من التهديدات منخفضة الحدة، خاصة الإرهاب والهجرة غير الشرعية والجريمة غير المنظمة.
يتسبب بعض أنواع هذه التهديدات منخفضة الحدة في قتل البشر، وبعضها الآخر يتسبب في إرباك المجتمعات وإثارة الانقسامات والصراعات فيها، وتشترك جميعاً في أنها تتسبب في إشاعة الشعور بالتهديد وانعدام الأمن.
لا أظن أننا سنشهد قريباً صراعات مسلحة في مركز العالم الآمن، والمؤكد أن أحداً لا يريد ذلك أو يتمناه.
لكن المؤكد أيضاً أن المرتكزات التي استند إليها سلام العالم لعقود آخذة في التآكل، وأن مرتكزات أخرى لم تقم مكانها، ولا يوجد ما يشير إلى أن قوى العالم الكبرى ستنجح في تطوير مرتكزات بديلة لأمن وسلام العالم في مدى زمني منظور.