جرى الصراع في مرحلة الحرب الباردة بين أمريكا وأوروبا الغربية من جهة والاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية من جهة أخرى في إهاب أيديولوجي واضح.
أمريكا وأيديولوجيا الحرية والديمقراطية، والاتحاد السوفييتي وأيديولوجيا الاشتراكية والعدالة وتحرر الشعوب. وكان لكل أيديولوجيا إغراؤها على مستوى الكوكب، بمعزل عن صدق أصحاب هاتين الأيديولوجيتين. ومازال الخطاب الأوروبي ـ الأمريكي يردد شعاراته السابقة لتبرير الهيمنة.
فالغرب، وأمريكا غرب، ظل ثابتاً في خطابه حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويقدم نفسه للحضارة الراهنة على هذا الأساس، وحين يدعم طرفاً ضد طرف آخر في صراع داخلي يجري في دولة ما من دول الهوامش، فإنه يجد تبريراته في الخطاب السابق. بل ما زالت أمريكا تناكف الصين في مسألة حقوق الإنسان.
ومع زوال الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، فقدت روسيا هذا الأساس الأيديولوجي للنزوع نحو الهيمنة. والصين بدورها لا تستخدم هذه الأيديولوجيا الحاكمة لها في تبرير أهميتها العالمية.
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فما هو الخطاب الذي يقف وراء النزوع للهيمنة عند دول لا تملك قوة إغراء للدول وللشعوب؟
ماذا يعني أن تكون الدولة عملاقاً عسكرياً وقزماً اقتصادياً، وفقيراً في إنتاج المعايير.
وفي منطق الهيمنة، فإن أية دولة ساعية للهيمنة على مستوى العالم، أو على مستوى الإقليم فيجب أن تتوافر فيها ثلاثة أنماط من القوة: القوة العسكرية-السياسية، القوة الاقتصادية العالمية (بما فيها القوة العلمية-التقنية)، والقوة المعيارية القيمية.
يظن بعض الواقفين على ظاهر الواقع أن القوة العسكرية معلم من معالم الحيوية التاريخية وتكفي وحدها لتحقيق حظ من الهيمنة العالمية أو الإقليمية. ويستشهدون بقوة إيران وكوريا الشمالية وإسرائيل العسكرية. لكنهم لا يدركون أن قوة دولة ما أو حضارة ما إنما تكمن في إنتاج معايير لنمط الحياة وقدرتها على التأثير في الآخرين وإنجاب السعادة للإنسان.
ما هي المعايير والقيم الحضارية التي تهديها دولة المرشد آية الله روح الله الإيرانية العسكرية للبشرية، ما هي القوة الاقتصادية والعلمية والمعيارية التي تقدمها للبشرية دولة نسبة 50% من سكانه تحت خط الفقر، كما جاء في تقرير لجنة الخميني الإغاثية الحكومية، وأيديولوجيا دينية متعصبة؟
ما المعايير والقيم التي تقدمها دولة كيم أون العسكرية-المطلقة للإنسانية، وأي أثر إيجابي للعنصرية الصهيونية المحتلة ومؤسستها العسكرية على وعي الإنسان المعاصر.
إن التاريخ لا يعرف مرحلة خالية من سياسة الهيمنة للدول الكبيرة القوية، ولكن هذه الهيمنة مهما كانت عدوانية، كانت تترافق دائماً مع تصدير المعايير للدول المهيمن عليها.
فغالباً من تكون الدولة القوية عالمياً دولة قوية حضارياً، فالقوة الحضارية هي أس القوة المهيمنة.
فالغزو التتري المغولي لبلادنا، والذي كان ثمرة قوة عسكرية جبارة، زال ولَم يترك أي أثر إيجابي.
وقس على ذلك الغزو الصليبي الذي انتهى من بلادنا بعد 200 عام، وكأنه لم يكن.
ولهذا فإن عقلية الغزو المرتبطة بالقوة العسكرية، عقلية قديمة، وقد عفى عليها الزمن.
ونحن على المستوى الأخلاقي ضد نزعات الهيمنة الإمبراطورية مهما كانت هذه الإمبراطوريات حضارية. فكيف إذا كانت نزعات الهيمنة هذه موجودة عند دول متخلفة، وليس عندها وسيلة للهيمنة إلا الدخول من مدخل الطائفية البغيض، والمدمر للحياة المعشرية.
وأمام العرب اليوم -العرب الذين يفكرون بمستقبلهم السيادي- أن يسعوا لتشكيل قوة إقليمية حامية لعالمهم واستقرارهم وحقوقهم. وإقامة علاقات ند مع الآخر. وعندي بأن الشروط لتحقيق ذلك متوافرة إذا أحسنا التفكير.