لو عجزت عن تفسير قرار لحكومة من الحكومات تجاه بلد آخر فما عليك سوى أن تفكر بمنطق توازن القوة. لماذا تنفق الدول الأموال لشراء وتصنيع السلاح؟ لماذا يتبادل الملوك والرؤساء الزيارات؟ ولماذا يلتقي المسؤولون من دولة يمينية مع مسؤولي دولة يسارية أحياناً؟ تحليل الأحداث الدولية بمنطق توازن القوة يضمن لك الوصول إلى نتائج سليمة بنسبة لا تقل عن ثمانين بالمئة، أما العشرون بالمئة الباقية فتمثل التأثير الذي تمارسه عوامل أخرى، مثل الأيديولوجيا والثقافة والقانون الدولي، على العلاقات الدولية.

توازن القوة هو الآلية الرئيسية التي يعمل وفقاً لها النظام الدولي، وهو أكثر مفاهيم حقل العلاقات الدولية فاعلية في تفسير وشرح العلاقات بين الدول والقرارات التي تتخذها الحكومات في مجال السياسة الخارجية. لكي نثمن الفائدة والميزة الكبرى لتوازن القوة فعلينا أن نتأمل الحالة النقيض، أي حالة الاختلال في توزيع القوة، ففي غياب التوازن، وعندما تتمتع دولة واحدة بقوة فائقة تزيد عما هو متاح للدول الأخرى، فإن فائض القوة المتاح لهذه الدولة يغريها بالسيطرة على الجيران، وإكراههم على التخلي عن أهداف وسياسات اختاروها لأنفسهم، لكي يتبنوا أهدافاً وسياسات تختارها لهم القوة المهيمنة.

اختلال ميزان القوة وانحيازه لصالح أحد الأطراف يشجع الدولة الأقوى لخوض مغامرات التخويف والسيطرة والتوسع. يحدث هذا عندما يغيب بين الدول الأخرى منافس حقيقي، وطرف يمتلك من القوة ما يكفي لتحميل المعتدي ثمناً باهظاً لسياسات الترهيب. قديماً قال الحكماء من السلف: «من أمن العقاب أساء الأدب»، وينطبق هذا المثل على كل مجالات التفاعل الإنساني، بما في ذلك مجال العلاقات بين الدول، فالدولة التي لا تخشى نتائج أعمالها، ستتصرف حتماً بفجاجة وعدوانية، دون اعتبار لحقوق الدول الأخرى. هذا هو ما تفعله إسرائيل بحق جيرانها، لأن قوتها العسكرية والحماية التي توفرها لها الولايات المتحدة تعفيها من دفع ثمن العدوان. كذلك، فإن علاقة روسيا بجيرانها من الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي السابق هي علاقة اختلال فادح في ميزان القوة، وهو الاختلال الذي يشجع روسيا على التحرش بالجيران عقاباً على محاولتهم التصرف بطريقة مستقلة.

اختلال ميزان القوة هو أهم مصدر لتهديد استقلال الدولة وقدرتها على تطبيق السياسات التي تختارها لنفسها، فعندما يختل ميزان القوة تجد الدولة نفسها مجبرة على الخضوع لرغبات القوة المهيمنة، لهذا تكره الدول إيجاد نفسها وسط وضع اختل فيه ميزان القوة، فتتحول إلى ضحية مفروض عليها القبول بالتبعية.

على العكس من ذلك، فعندما تتوازن القوة في النظام الدولي أو الإقليمي يشعر عدد أكبر من الدول بالأمن، ويتمتع عدد كبير من الدول بقدر أكبر من حرية الحركة، وبالاستقلال وممارسة السيادة.

امتلاك عوامل القوة وبناء التحالفات هما الوسائل المستخدمة من جانب الدول للحفاظ على توازن القوة. تشتري الدول السلاح وتبني الجيوش ليس لأنها تنوي التوجه للقتال، لكن لموازنة القوة العسكرية المملوكة للدول الأخرى. امتلاك قوة عسكرية توازن ما يمتلكه الآخرون هو السبيل الأكثر فعالية لتجنب الحرب. التحالفات هي الوسيلة الثانية التي تستخدمها الدول لتحقيق التوازن، فالدول تدخل التحالفات وتخرج منها من أجل حفظ التوازن فيما بينها.

تجري سياسات توازن القوة على كل المستويات في الوقت نفسه، فالقوى العظمى والكبرى تسعى لتحقيق التوازن فيما بينها عبر امتلاك القوة وبناء التحالفات. كان ذلك واضحاً في العلاقة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في زمن الحرب الباردة، وما زال قائماً بين الولايات وروسيا إلى اليوم.

قد تختار القوى المتوسطة والصغيرة أن تكون جزءاً من التحالف الموالي للولايات المتحدة أو أن تنضم إلى التحالف الآخر، لكن حتى الدول المنتمية للتحالف نفسه لا تكف عن العمل على موازنة قوة بعضها البعض. لعل أوضح مثل على ذلك هو سياسات توازن القوة التي طبقتها اليونان وتركيا تجاه بعضهما البعض رغم أن البلدين كانا جزءاً من التحالف الأطلسي الموالي للولايات المتحدة، أما اليوم فإن تركيا وإيران تحرصان على موازنة قوة بعضهما، رغم أن البلدين يعملان ضمن التحالف الذي تقوده روسيا في الشرق الأوسط.

أشهر المغالطات والاتهامات التي يتم إلصاقها بسياسة توازن القوة هو الادعاء بأن سياسات توازن القوة هي المسؤولة عن نشوب الحروب. يقول المنتقدون لمبدأ توازن القوة إن انشغال الدول بمراقبة تصرفات بعضها، وميلها لتفسير سلوك الدول الأخرى بطريقة تقوم على الشك وسوء النية، وتسابقها على امتلاك السلاح خوفاً من اختلال الميزان مع المنافسين، كل هذه العوامل هي التي تؤدي في النهاية لنشوب الحرب وتهديد أمن الدول، لكن الحقيقة على العكس من ذلك تماماً، فنشوب الحرب هو دليل على تجاهل الحكومات لمبدأ توازن القوة، أو لفشلها في تنفيذه بطريقة سليمة، فالاتباع الدقيق لمبدأ توازن القوة ينتج حالة من الردع المتبادل، ويخلق يقيناً لدى كل طرف بأنه لن يكون بإمكانه الإفلات من دفع الثمن لو تهور وقرر التصرف بعدوانية، فتوازن القوة هو أقصر الطرق لتحقيق الاستقرار والسلام.

* كاتب ومحلل سياسي