طالما أنَ الانقلابات العسكرية الداخلية من أجل تغيير الحكومات، هي سياسة مرفوضة الآن في العالم ككلّ، فأيُّ نظامٍ ديمقراطي هذا يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروب أهلية أو تدخلٍ عسكريٍّ خارجي؟

تُرى، لو لم تستبِح بعض الحكومات العربية حقوق مواطنيها، وحقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، هل كانت الأمَّة العربية لتصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟

إنَّ الأمَّة الواحدة ذات الثقافة الواحدة والمصير المشترك، تتصارع في داخلها الآن قوى وجماعات وكيانات، وتتهجّر من أرضها كفاءات وعقول وخيرات، وتتعمّق في مجتمعها الواحد دعوات لمزيد من الانقسامات على أسسٍ إثنية أو طائفية أو حتى مناطقية أحياناً !.

وعلى الرغم من تنوّع التحدّيات التي تواجه الأمة العربية واختلاف ساحاتها، فإنَّ كلاً منها يصيب المنطقة العربية كلّها ولا يعني بلداً دون الآخر، كما أنَّ للقوى الأجنبية (الإقليمية والدولية) دوراً حاسماً في كيفية التعامل سلباً أم إيجاباً مع كلِّ عنصرٍ من هذه التحدّيات.

على الجانب الخارجي، فإنَّ الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بصراعات المنطقة، لدى كل منها رؤية شاملة لمشاكل المنطقة العربية كلّها، وهناك أيضاً «مشاريع حلول» أجنبية لهذه المشاكل قد لا تتوافق مع آمال وطموحات شعوب المنطقة العربية.

فبديل الرؤية العربية المشتركة يقوم على حالةٍ من الصراعات البينة وتجزئة الإمكانات والطاقات العربية، وتوصيف أمراض الواقع العربي الراهن هو بالأمر الهيِّن، لكن المشكلة الحقيقية هي في كيفيَّة تحديد (الحلول) والوسائل المناسبة لمعالجة هذه الأمراض التي تنقل العرب مع مرور الزمن، من سيئ إلى أسوأ.

في السياق التاريخي المعاصر للأمَّة العربية، نجد أنَّ ما حدث بعد حرب 1967، كان نموذجاً صالحاً للتكرار في أكثر من حقبةٍ زمنيةٍ معاصرة، وخاصَّةً الآن.

فالعرب عام 1967 كانوا في أقصى حالات الصراعات العربية/‏ العربية، إضافةً إلى انقسامٍ سياسيٍّ حادّ حول طبيعة الأنظمة ومناهج الحكم، وفي ظلِّ مناخٍ دوليٍّ حادّ الاستقطاب كانت تقود فيه أمريكا حرباً، باردةً شكلاً وساخنةً ضمناً، ضدَّ المعسكر الآخر وكلّ من يتعامل معه من دول العالم الثالث...

ورغم هذه الظروف كلّها، نجحت قمَّة الخرطوم عام 1967 في تجاوز العقبات ووضعت رؤيةً عربيةً مشتركةً لكيفية التعامل مح تحدّيات المرحلة آنذاك، ولما هو مطلوبٌ عربياً من غاياتٍ مرحلية. أيضاً، نجحت قمَّة الخرطوم في بناء تضامنٍ عربيٍّ مشترك أنهى الصراعات العربية/‏ العربية ووضع كلَّ الطاقات العربية في خدمة المعركة ضدَّ العدوِّ الإسرائيلي.

وتزامن مع قمَّة الخرطوم سعي عربي مشترك للجمع بين العمل السياسي والدبلوماسي على الساحة الدولية وبين بناء الاستعدادات العسكرية لإعادة تحرير الأراضي المحتلة عام 1967، فكانت حرب الاستنزاف البطولية على الجبهة المصرية متزامنة مع قبول قرارات مجلس الأمن الدولي والمبادرات الدولية التي طُرِحت آنذاك. وكانت هذه الحقبة (67-1970) هي التي مهَّدت لحرب أكتوبر عام 1973 والتي جمعت بين استخدام الطاقات العسكرية والاقتصادية العربية معاً.

ليس هناك في العالم اليوم حالة من الاستقطاب الدولي لكي تفرز الحكومات العربية بين صديقٍ وعدوّ لهذه الدولة الكبرى أو تلك، فمعظم الحكومات العربية (كما هو الآن معظم العالم تقريباً) ينشد «صداقة» أمريكا وروسيا والصين معاً!.

لقد كانت مبررات الرئيس الأمريكي ترامب في اعترافه بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، بأنّ ذلك هو الواقع الموجود لأكثر من خمسين سنة، وهي الأعذار نفسها التي أعطاها ترامب لقراره بحق إسرائيل في الاستيلاء على هضبة الجولان المحتلة.

تُرى لماذا لا يستخدم ترامب «منهجه الواقعي» هذا في الاعتراف والتعامل مع النظام الكوبي الحاكم لأكثر من نصف قرنٍ من الزمن؟! ولماذا لم تُسلّم الولايات المتحدة في «واقع» المعسكر الشيوعي وحاربته بمختلف الوسائل لعقودٍ طويلة؟!.

وللأسف، فهناك أقلام عربية تكتب بمنطق مشابه لمفاهيم ترامب للواقعية وتتساءل لماذا لم يقبل العرب والفلسطينيون بوجود إسرائيل ويعترفون بها في نهاية حقبة الأربعينات من القرن الماضي رغم ما قامت به العصابات الصهيونية المسلّحة من مجازر وتشريد للشعب الفلسطيني عشية إعلان الدولة الإسرائيلية!

فلو جرى اعتماد «المنهج الترامبي» في فهم الواقعية لما جاز للأوروبيين الاحتجاج على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ولما تخلّصت جنوب أفريقيا من نظامها العنصري، حيث أصرّ نيلسون مانديلا على حق المساواة في المواطنة رغم اعتقاله وتعذيبه لأكثر من عشرين سنة!، فالفارق كبير جداً بين «الواقعية»، أي الانطلاق من الواقع الموجود، وبين الاستسلام للأمر الواقع السيئ والخضوع له رغم إدراك عدم أحقيته أو عدالته.

«الواقعية» السليمة تكون في السعي لتحقيق التغيير المنشود والتغلّب على العقبات والانتصار على عناصر الضعف رغم صعوبة الظروف المحلية والإقليمية والدولية.

«الواقعية» السليمة ترى مصدر العجز وسبب المشكلة في الواقع المرفوض، فتعمل على سدّ العجز وتجاوز المشكلة، غير أنّها لا تقبل بهذا الواقع وكأنّه حتميّة وقدر لا يجوز المسّ بهما أو الاعتراض عليهما! «الواقعية» السليمة ترفض التراوح المذِل في المكان نفسه فتتحرّك بإقدامٍ وصبرٍ وعزيمةٍ وثقةٍ بالله وبالأمّة وبالنفس، فتنتصر رغم حجم التحديات.

لقد عانت دول أوروبا الغربية من حروبٍ وصراعات دموية وتنافس على الهيمنة، أكثر من أية قارة أخرى في العالم، لكن مجرد إعادة بناء مجتمعات الدول الأوروبية على أسسٍ سليمة أوصلها إلى قناعة بأهمية التكامل والاتحاد فيما بينها فجمعت بين حكمٍ ديمقراطي في الداخل، وبين تكاملٍ أوروبي تجاوز صراعات الماضي كلها وتباينات الثقافة واللغة والتاريخ -القائمة في الحاضر- لكن من أجل بناء مستقبل مشترك أفضل.

*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن