لا يوجد دليل على مخاطر الشعبوية أكثر مما يحدث الآن في بريطانيا. تحت تأثير دعاية المحرضين الشعبويين صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، لكنهم منذ ذلك الحين وهم يفشلون مرة بعد أخرى في الاتفاق على تحويل هذا التصويت إلى خطة قابلة للتنفيذ.

نجح الشعبويون الكارهون للاتحاد الأوروبي في تزيين الخروج باعتباره بداية نهضة جديدة لبريطانيا.

بالغ الشعبويون في تضخيم مساوئ بقاء بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي؛ وقللوا من شأن أي فائدة تعود عليها من عضوية الاتحاد؛ وبشروا بالعالم الرائع الذي ينتظرها بعد التخلص من القيود الأوروبية؛ لكنهم لم يقولوا كلمة واحدة عن كيفية الخروج، فتصوره الناخبون عملية بسيطة معدومة الكلفة، تتحقق بمجرد تصويتهم للخروج؛ ومن يومها والبريطانيون يعيشون في فوضى غير مسبوقة.

السؤال «كيف»، و«بأي تكلفة»، هو السؤال الذي يتجنب المحرضون الشعبويون الإجابة عنه دائماً.

الشعبويون يتصرفون كالطفل العنيد الذي يصرخ عالياً، ويدق بأرجله على الأرض، ويرمي بالأغراض في كل اتجاه، مطالبا بالحصول على ما يريد الآن وفورا، رافضا الاستماع لأي أعذار تحاول إقناعه باستحالة تحقيق مطلبه، أو بمجرد الانتظار حتى الصباح.

هذا هو ما حدث في بريطانيا بشأن قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي، فالشعبويون المعادون للاتحاد الأوروبي لم يكلفوا أنفسهم بالتفكير في طبيعة الاتفاق المنظم لعملية الخروج؛ ومصير ملايين البريطانيين الذين انتقلوا بحياتهم وأعمالهم للعيش في دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرون، وملايين مثلهم من الأوروبيين انتقلوا للعيش في بريطانيا؛ ومصير التجارة بين أوروبا وبريطانيا بعد الخروج؛ ومصير اتفاق السلام الأيرلندي الذي تم التوصل إليه في عام 1998 على أساس إلغاء نقاط الحدود، وتحقيق حرية التنقل والتجارة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، ضمن القواعد المنظمة لحرية التجارة والانتقال بين البلاد المنضوية في عضوية الاتحاد الأوروبي.

نظمت بريطانيا استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في الثالث والعشرين من يونيو 2016، وكانت هذه هي الخطيئة الكبرى التي تدفع بريطانيا ثمنها إلى الآن.

لم تكن الحكومة البريطانية مضطرة لتنظيم الاستفتاء، وبالتأكيد فإنها لم تكن مضطرة لتنظيمه دون تحضير كاف؛ لكنها أخطاء السياسيين وسوء تقديرهم.

كانت المشاعر والآراء المتشككة في جدوى عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تتزايد، لكنها لم تكن أبدا من القوة بحيث تجبر الحكومة البريطانية على الاستجابة الفورية لها.

ترافق هذا مع انتخاب دافيد كاميرون رئيسا للحكومة في مايو 2010، والتي استمر في رئاستها حتى يوليو 2016. كاميرون سياسي شاب طموح، شديد الثقة بنفسه، ذو نوازع ليبرالية قوية، يثق في الناخبين، وفي قدرتهم على اتخاذ القرار السليم، وهزيمة المحرضين الشعبويين. أفرط كاميرون في اللجوء للناخبين في استفتاءات شعبية، وشهدت سنوات حكمه الست تنظيم ثلاثة استفتاءات شعبية، بمعدل استفتاء جديد كل عامين، وهو معدل غير مسبوق في تاريخ بريطانيا السياسي.

راهن كاميرون على توظيف الاستفتاء كأداة لتعزيز شرعية النخبة السياسية الحاكمة، ولوضع حد للتحريض الشعبوي، لكنه لم يتحوط لاحتمال أن يمثل اللجوء المتتالي للاستفتاء تفريطاً من جانب السياسيين المنتخبين في شرعية تمثيلهم للأمة، ومنحاً لفرص إضافية وتنازلات غير مبررة للمعارضة الشعبوية.

طوال تاريخها الطويل مع الديمقراطية لم تنظم بريطانيا سوى ثلاثة استفتاءات شعبية عامة شاملة، بخلاف عدد أكبر من الاستفتاءات المحلية والإقليمية.

من بين هذه الاستفتاءات الثلاثة تم تنظيم استفتاءين اثنين في عهد حكومة دافيد كاميرون؛ أما الاستفتاء الثالث، وهو أول استفتاء عام شامل جرى تنظيمه في تاريخ بريطانيا، فقد تم تنظيمه في يونيو 1975 للتعرف على رأي الناخبين فيما يتعلق بعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي التي كانت قد تمت قبل ذلك بعامين.

في مايو 2011 نظمت حكومة دافيد كاميرون استفتاء على تغيير نظام الانتخابات في بريطانيا، فانتصر البريطانيون لرأي دافيد كاميرون، وتمسكوا بنظام الانتخابات القائم.

في سبتمبر 2014 تم استفتاء الناخبين في اسكتلندا على مسألة الانفصال، فتمسكوا بالبقاء جزءاً من المملكة المتحدة، منتصرين مرة أخرى لوجهة نظر رئيس الوزراء. شجعت هذه النتائج رئيس الوزراء كاميرون على الذهاب للاستفتاء مرة ثالثة، فكان استفتاء البقاء في الاتحاد الأوروبي في مايو 2016، لكن الناخبين خذلوه هذه المرة.

الثقة الزائدة في الذات وفي قدرة الناخبين على اتخاذ القرار السليم تسببت في نقص التركيز والحرص اللازم في التحضير لاستفتاء البريكست، فكانت النتيجة المخيبة للآمال.

كسبت الحكومة البريطانية استفتاء عام 1975، وأصبحت بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي؛ أما في عام 2016 فقد صوت البريطانيون في الاتجاه المضاد، وأدخلوا البلاد في أزمتها الراهنة؛ ولأن دخول الحمام ليس مثل الخروج منه، فإن استفتاء الناخبين للدخول في الاتحاد الأوروبي ليس كمثل استفتائهم على الخروج منه.

في استفتاء البريكست الكثير من التسليم للابتزاز الشعبوي واستقالة النخبة السياسية من دورها القيادي بدعوى وضع الأمر في يد الشعب؛ وما الفوضى الحادثة في بريطانيا إلا النتيجة المنطقية لهذا المزيج السام من التبجح الشعوبي واستقالة النخبة.