التحولات الدراماتيكية في المشهد السوداني، تأتي في سياق تعقيدات التركيبة السياسية السودانية، فواحدة من أكثر الدول العربية تعقيداً، تجري فيها عملية اجتثاث لنظام ظل على مدار ثلاثة عقود، يلعب أدواراً سياسية، كانت لها امتداداتها في العالم العربي، وإن كان السودان يتقاطع بشكل أو بآخر مع اليمن، من زوايا شراكة النظام السياسي السابق، مع تنظيم «الإخوان»، واستقطاب النظامين للأفغان العرب، فإن السودان كان يمثل أكثر الأنظمة السياسية العربية التي حاولت أن تصبح دولة بهوية إخوانية.

لم يخفِ منظّر التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، حسن الترابي، عبر قناة الجزيرة القطرية، كيفية غدارة التنظيم الدولي للنظام في السودان، ولم يخفِ الترابي نفسه أنه واحد من أولئك الذين استطاعوا أن يختطفوا النظام الجمهوري بعد انقلاب 1989، وأن الحركة الإخوانية لعبت دوراً (باطنياً) في الانقلاب، الذي ظهر أنه عسكري، بينما أن في جوفه كافة الخلايا الإخوانية، التي تمكنت عبر سنوات من إخضاع السودان لخدمة مشاريع التنظيم الدولي.

في فترة حكم البشير، فتح السودان أبوابه لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، ومن على تراب السودان، تلقى المئات من أتباع بن لادن التدريبات القتالية في المعسكرات التي وجدت رعاية من النظام السياسي، ليس هنا فقط مصدر الخطورة، بل في مقدار ذلك التغلغل في أجهزة النظام، وإلى أي مدى كانت المعلومات تتسرب إلى عناصر لعبت أدواراً مختلفة في ما بعد خروجها من السودان، بل إلى أي مدى كانت المعلومات تصل إلى قيادات التنظيم الدولي، ويستفاد منها على أكثر من مسار، وفي أكثر من دولة.

لا يمكن التغافل عن ارتباطات نظام البشير مع مختلف القوى في المنطقة، فلقد نسج علاقاته مع أنظمة تركيا وقطر، كما نسج علاقات موازية مع أنظمة عربية أخرى، وإن كان الأخطر، أن نظام البشير حاول اللعب على أكثر من وتر، في تناقض للمواقف السياسية، وإن كان الدور السوداني ظل متماهياً مع التباينات، وقادراً على امتصاص الصدمات، حتى وإن أبقت على تأثيراتها السياسية، كما حدث في موقف الخرطوم في غزو العراق لدولة الكويت 1990، فعلى رغم أن السودان كان من دول الضد، إلا أنه تعامل مع الظرف وفقاً لمقتضيات الأيديولوجية الدينية.

زرع الترابي منذ عام 1986، بذرة الجبهة القومية الإسلامية في تراب السودان، عندما ادعى آنذاك انشقاقه عن تنظيم «الإخوان»، تمازج نظام حكم البشير مع «الإخوان» تماماً، كما كان الرئيس اليمني على عبد الله صالح، متمازجاً مع التنظيم ذاته، وكما لدغ علي صالح من«الإخوان» في 2011، لدغ البشير من عباءته الإخوانية في 2019، ومع ذلك، فإن ما تحت التراب السوداني من أفاعي الإخوان وغيرهم، لا يمكن اقتلاعها تحت شعار (اجتثاث نظام البشير).

أرسل رئيس المجلس الانتقالي، الفريق عبد الفتاح البرهان، رسالة تطمين، باعتزامه اجتثاث نظام حكم البشير، ومع هذه الرسالة التي لا تبدو كافية، فإن اقتلاع جذور التطرف الديني من التراب السوداني، تبدو هي معركة السودان خلال العشرية القادمة، وإن كان السودان بطبيعته المتنوعة سياسياً وفكرياً، يبدو قادراً على إنتاج نظام سياسي مدني، نتيجة زخم الأفكار اليسارية، واتساع الطبقة المتعلمة في مجتمع يمكنه أن يتلاءم مع مرحلة التغيير السياسي، تحت قاعدة رئيسة، تحظر الأحزاب السياسية المستندة على الدين، فعدم إتاحة الفرصة لوجود هذه الكيانات، خطوة أولى لعزل هذه الأفكار المتطرفة، واستبدالها بأحزاب وطنية تستطيع حمل السودان.

نظام البشير أغرق السودان في حروب وصراعات وأزمات، كلها أكدت على أن جماعات التطرف الديني، مستعدة أن تضحي بكامل الثروات، في مقابل أن تبقى حية وتمارس أنواع الطيش السياسي بكل الفواحش، فهذا ما حدث في النموذج السوداني، على مدار ثلاثة عقود، أنتجت أعمق الأزمات، بعد حروب الجنوب، وجرائم الحرب في دارفور، بل بلغت أقصاها، برهن سواكن السودانية للنفوذ التركي في البحر الأحمر، مهدداً الأمن القومي العربي.

مهمة اقتلاع جذور «الإخوان» من التراب السوداني مهمة مُعقدة، نتيجة تغول التنظيم السري في مؤسسات وهيئات الدولة، وتتطلب عملية الاقتلاع، العمل بتوازن في مسارات ثلاثة، يبدأ بدعم الاقتصاد السوداني، وتخفيف معاناة الشعب، والمسار الثاني إطلاق عملية سياسية تكفل تأسيس الدولة الوطنية السودانية، ومسار ثالث يواصل اجتثاث الإخوان من جذورهم، بالاستفادة من تجارب الدول العربية، التي ما زالت تعاني من تجاوز تغوّل تيارات التطرف الديني في مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.